تميز الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 18 لتربع جلالة الملك على عرش أسلافه المنعمين بالصراحة والدقة والواقعية، وكان خطابا قويا من حيث الرسائل التي بعثها جلالته إلى من يهمهم الأمر؛ بحيث تميز الخطاب كذلك بالجرأة في توصيف الأمور وإزالة اللبس عنها، لكي لا يبقى البعض يختبئ وراء مجموعة من الخطابات التي سماها جلالته بالخطابات الشعبوية؛ وذلك حينما قال جلالته: "فتدبير الشأن العام، ينبغي أن يظل بعيدا عن المصالح الشخصية والحزبية، وعن الخطابات الشعبوية، وعن استعمال بعض المصطلحات الغريبة التي تسيئ للعمل السياسي". أولا: خطاب العرش والتشخيص الدقيق لبعض القطاعات والأوراش لقد ركز الخطاب الملكي لعيد العرش على وضع اليد على مجموعة من الاختلالات التي تميزت بها بعض القطاعات وكذا الأوراش، كما أن الخطاب أعطى إشارات قوية بخصوص الأهداف المتوخاة من هذه الأوراش التي تتجلى أساسا في خدمة المواطن، ويتضح ذلك من خلال ما جاء به الخطاب حينما قال جلالته: "إن المشاريع التنموية والإصلاحات السياسية والمؤسسية، التي نقوم بها، لها هدف واحد، هو خدمة المواطن، أينما كان، لا فرق بين الشمال والجنوب، ولا بين الشرق والغرب، ولا بين سكان المدن والقرى". كما أن الخطاب الملكي سلط الضوء على العديد من المناطق التي تحتاج إلى المزيد من الخدمات الاجتماعية، والمزيد من التدخل رغم أن جلالته أقر بمحدودية الإمكانات التي يتوفر عليها المغرب، لكن المغرب رغم محدودية هذه الإمكانات استطاع أن يتطور باستمرار، وأكد جلالته على أن هذا التقدم بشكل واضح وملموس يشهد به الجميع في مختلف المجالات. كما أن جلالة الملك في إطار التشخيص الذي أعطاه لبعض القطاعات والأوراش، اعتبر أن ثمة مفارقات صارخة من الصعب قبولها وفهمها؛ فبقدر ما يعرف المغرب استقطاب شركات صناعية كبرى من أمثال شركة "بوينغ" و"رونو" و"بوجو" وتطورا كبيرا في المجال الصناعي، بقدر ما يعرف تواضع الإنجازات في المجال الاجتماعي. وإذا كان المغرب "نجح في العديد من المخططات القطاعية، كالفلاحة والصناعة والطاقات المتجددة، فإن برامج التنمية البشرية والترابية، التي لها تأثير مباشر على تحسين ظروف عيش المواطنين، لا تشرفنا، وتبقى دون طموحنا"، كما قال جلالته. وترجع الإخفاقات في المجالات الاجتماعية "إلى ضعف العمل المشترك، وغياب البعد الوطني والاستراتيجي، والتنافر بدل التناسق والالتقائية، والتبخيس والتماطل، بدل المبادرة والعمل الملموس". ثانيا: خطاب العرش وغياب حكامة التسيير وضعف الفاعلين السياسيين لقد تميز خطاب العرش كذلك بالوقوف على ضعف الإدارة العمومية وغياب حكامة التسيير في مجموعة من القطاعات الاجتماعية، وكذلك فشل نماذج التسيير المنتهجة في هذه القطاعات والفرق الصارخ ما بين القطاع العام والقطاع الخاص. ويظهر هذا من خلال المفارقات التي تزداد حدة "بين القطاع الخاص، الذي يتميز بالنجاعة والتنافسية بفضل نموذج التسيير القائم على آليات المتابعة والمراقبة والتحفيز، وبين القطاع العام، وخصوصا الإدارة العمومية، التي تعاني من ضعف الحكامة ومن قلة المردودية". "فالقطاع الخاص يجلب أفضل الأطر المكونة في بلادنا، التي تساهم اليوم في تسيير أكبر الشركات الدولية بالمغرب، والمقاولات الصغرى والمتوسطة الوطنية. أما الموظفون العموميون، فالعديد منهم لا يتوفرون على ما يكفي من الكفاءة، ولا على الطموح اللازم، ولا تحركهم دائما روح المسؤولية". وهذا التوصيف هو مأخوذ من الواقع الذي تتميز به الإدارة العمومية بكل أشكالها، سواء كانت مركزية أو ترابية أو شبه عمومية، هذه الإدارة التي تتميز بالرتابة والبيروقراطية وغالبا ما تكون السبب في عرقلة العديد من المشاريع، هذه الإدارة التي لم تستطع أن تتخلص من رتابتها وتستفيد من القطاع الخاص الذي اعتبره جلالة الملك يتميز بالنجاعة والتنافسية وسيتقطب أفضل الأطر التي تسير أكبر الشركات الدولية بالمغرب، عكس الموظفين العموميين الذين يفتقدون إلى الطموح ويفتقرون إلى المبادرة. واعتبر جلالة الملك أن "من بين المشاكل التي تعيق تقدم المغرب، هو ضعف الإدارة العمومية، سواء من حيث الحكامة، أو مستوى النجاعة أو جودة الخدمات التي تقدمها للمواطنين". وقد خلص جلالة الملك بخصوص هذه النقطة إلى أن الموظفين العمومين مطالبون بالعمل كأطر القطاع الخاص أو أكثر، وبروح المسؤولية وبطريقة تشرف الإدارة، وتعطي نتائج ملموسة؛ لأنهم مؤتمنون على مصالح الناس. ثالثا: خطاب العرش انتقادات قوية للفاعلين والأحزاب السياسية والعمل على تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة لقد تميز خطاب العرش بانتقادات لاذعة للأحزاب السياسة والفاعلين في الشأن العام، وكذا الوقوف على ضرورة تفعيل المقتضيات الدستورية، خاصة في ما يتعلق بمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة 1 – انتقادات قوية للفاعين والأحزاب السياسية انطلاقا مما وصلت إليه بعض القطاعات، خاصة تلك المتعلقة بالمجالات الاجتماعية، والاختلالات التي تعرفها، فإن الخطاب الملكي بعدما قام بتشخيص هذه الوضعية كان من الضروري أن يحدد المسؤوليات، وقد اعتبر جلالته أن المشكل ليس في الاختيارات؛ لأن الاختيارات عموما تكون صائبة، ولكن المشكل في العقليات وفي القدرة على التنفيذ والإبداع. واعتبر جلالته أن "التطور السياسي والتنموي الذي يعرفه المغرب، لم ينعكس بالإيجاب على تعامل الأحزاب والمسؤولين السياسيين والإداريين، مع التطلعات والانشغالات الحقيقية للمغاربة. "فعندما تكون النتائج إيجابية، تتسابق الأحزاب والطبقة السياسية والمسؤولون إلى الواجهة للاستفادة سياسيا وإعلاميا من المكاسب المحققة. أما عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر الملكي، وإرجاع كل الأمور إليه". وانطلاقا من هذا الوضع واستنادا إلى ما ورد في الخطاب الملكي من ضعف المسؤولين السياسيين وما يتميزون به من التماطل في حل مشاكل المواطنين، وانحراف الطريقة التي يمارسون بها السياسة، والتي تتجلى في قضاء المصالح الخاصة وتصفية الحسابات السياسوية، إلى حد الإضرار بمصالح المواطنين، نجد جلالة الملك في هذا الخطاب أشار إلى كون المواطن من حقه أن يتساءل: "ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصل، إذا كانوا هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر؟ فممارسات بعض المسؤولين المنتخبين تدفع عددا من المواطنين، وخاصة الشباب، للعزوف عن الانخراط في العمل السياسي، وعن المشاركة في الانتخابات؛ لأنهم بكل بساطة لا يثقون في الطبقة السياسية، ولأن بعض الفاعلين أفسدوا السياسة، وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل". ويستنتج من هذا كون ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فكيف يمكن للشعب أن يثق في هؤلاء؟ 2 -تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة لد أكد الخطاب الملكي على المسؤولية واعتبر جلالته أن مسؤولية وشرف خدمة المواطن تمتد من الاستجابة لمطالبه البسيطة إلى إنجاز المشاريع، صغيرة كانت أو متوسطة أو كبرى. وقد تساءل جلالته عن معنى المسؤولية، إذا غابت عن صاحبها أبسط شروطها، وهو الإنصات إلى انشغالات المواطنين؟ وفي هذا الإطار، شدد جلالته على التطبيق الصارم للمقتضيات الدستورية، خاصة ما يتعلق بمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. فإذا كان القانون يطبق على جميع المغاربة، فإنه كذلك يجب أن يطبق على كل المسؤولين بدون استثناء أو تمييز، وبكافة مناطق المملكة. ولا يفعل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، خصوصا وأن المغرب يعيش مرحلة جديدة لا فرق فيها بين المسؤول والمواطن في حقوق وواجبات المواطنة، ولا مجال فيها للتهرب من المسؤولية أو الإفلات من العقاب. لهذا أصبح من الضروري، حسب مضمون الخطاب، تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. هذا المبد الذي نصت عليه الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور كما يلي: "يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها، والديموقراطية التشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة". وتفعيل هذا المبدأ يعني أنه سيشمل كل المؤسسات والمسؤولين الفاعلين، حكومة وبرلمانا، وأحزابا، وكافة المؤسسات، كل في مجال اختصاصه. والعمل على ضرورة تفعيل هذا المبدأ في نظرنا ينطلق مما أبانت عنه مجموعة من الأحداث كما وضحها جلالته في خطاب العرش، والتي تعرفها بعض المناطق، وتتجلى أساسا "في انعدام غير مسبوق لروح المسؤولية. فعوض أن يقوم كل طرف بواجبه الوطني والمهني، ويسود التعاون وتضافر الجهود، لحل مشاكل الساكنة، انزلق الوضع بين مختلف الفاعلين إلى تقاذف المسؤولية، وحضرت الحسابات السياسية الضيقة، وغاب الوطن، وضاعت مصالح المواطنين". وقد استغرب جلالة الملك أن يصل الصراع الحزبي، وتصفية الحسابات السياسوية، إلى حد الإضرار بمصالح المواطنين. وقد أرجع جلالة الملك تراجع الأحزاب السياسية وممثليها، عن القيام بدورها، عن قصد وسبق إصرار أحيانا، وإلى انعدام المصداقية والغيرة الوطنية أحيانا أخرى. وهذا الأمر كانت له العديد من التداعيات تجلت في الفراغ المؤسف والخطير كما وصفه جلالة الملك في خطاب العرش؛ حيث وجدت القوات العمومية نفسها وجها لوجه مع الساكنة فتحملت مسؤوليتها بكل شجاعة وصبر، وضبط للنفس، والتزام بالقانون في الحفاظ على الأمن والاستقرار. ويقصد جلالة الملك أحداث الحسيمة التي لوحظ غياب الأحزاب وعدم قدرتها على تأطير المواطنين، رغم أن ما وقع يمكن أن ينطبق على أي منطقة أخرى. الاستنتاجات: نستنتج من مضامين الخطاب الملكي ما يلي: - المغرب حق تقدما كرا على مستوى مجموعة من القطاعات؛ "صناعة السيارات" "الطاقات المتجددة" "البوينغ"، لكن على مستوى القطاعات الاجتماعية لا زال يعرف بعض الإخفاقات. - النموذج المؤسسي المغربي من الأنظمة السياسية المتقدمة، إلا أنه يبقى في معظمه حبرا على ورق، والمشكل يكمن في التطبيق على أرض الواقع. - على كل مسؤول أن يمارس صلاحياته دون انتظار الإذن من أحد. وعوض أن يبرر عجزه بترديد أسطوانة "يمنعونني من القيام بعملي"، فالأجدر به أن يقدم استقالته، التي لا يمنعه منها أحد. - المغرب يجب أن يبقى فوق الجميع، فوق الأحزاب، وفوق الانتخابات، وفوق المناصب الإدارية. * أستاذ القانون العام بجامعة عبد المالك السعدي