يواصل الشعب التونسي الشقيق, تقديم الدروس وبثّ الرسائل للشعوب العربية، التي ما تزال تحت وقع صدمة الربيع العربي, هذا الحدث «التاريخي» وغير المسبوق في التاريخ المعاصر، الذي تم اختطافه على يد قوى وحركات الاسلام السياسي ذات الصلة الوثيقة بدوائر غربية واخرى مشبوهة، قادها غرورها لعقد صفقة مع عواصم القرار الغربي, ظنّاً منها انها قادرة على توفير البضاعة وخصوصاً تأمين المصالح الغربية على نحو يفوق في «جودته» تلك الخدمات التي قدمتها انظمة الاستبداد والفساد والمحسوبية والقمع التي رفعت شعارات «زاعقة» ومُضللة وكاذبة, لم تكن تعني في قاموسها البوليسي، سوى مواصلة الإمساك بالسلطة والتمتع بامتيازاتها، والتحالف مع رجال المال والأعمال ووكلاء الاجنبي ودوائر استخباراته.. التوانسة قالوا كلمتهم في السادس والعشرين من تشرين الأول 2014, بعد تسعة اشهر من اقرار دستورهم الدائم و»الراقي»، واستخلاصهم الدروس والعِبر من سنوات قبض حزب حركة النهضة على الحكم وتحويلها تونس الى حقل تجارب لخطابها الاسلاموي, مستفيدة من ضعف المعارضة وهشاشة بل تفاهة من جاءت بهما الى رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان (التأسيسي والمؤقت) عبر صيغة متهافتة (الترويكا) ما لبثت ان بدأ راشد الغنوشي, كذلك حامد الجبالي وخَلَفه في رئاسة الحكومة علي العريّض، ينظرون اليهما كالدمى, تمكن خلالها «المرشد الروحي» للحركة ان يتسيّد المشهد وان يواصل عبثه في البلاد، وفرض قواعد اللعبة الاسلاموية عليه, الى حد الطلب من جماعات الجهاديين والتكفيريين, «إمهاله» حتى «يتمكن» ثم يتخلص من اليساريين والقوميين والدستوريين او التجمعيين كما يوصف انصار النظام السابق.. بل هو (الغنوشي) وحتى بدء فترة الصمت الانتخابي كان على درجة عالية من الغرور او الثقة بالنفس, بأن حركته ستكون «الاولى» ولهذا قال في اطمئنان: انه لا يُمانع في دخول ائتلاف مع القوى الرئيسية التالية لحركته في الترتيب (الثانية والثالثة). أُفرغت الصناديق من محتوياتها, وكانت المفاجأة المُدهشة لكثيرين والمُفرِحة لأوساط عديدة داخل تونس وخارجها، صحيح أن «النهضة» لم تُهزّم بالمعنى الاجرائي للكلمة، لكن التوانسة أنزلوها عن منصة التتويج التي مكثت عليها فترة ما بعد الثورة, وحتى بعد أن أُجبرت على التخلي عن رئاسة الحكومة تحت ضغط شعبي وحزبي هائل, ما دفع الغنوشي لنحت عبارة تبريرية اخرى بقوله: اننا خرجنا من «السلطة» لكننا لم نخرج من «الحُكم», في إصرار على العيش في حال إنكار, والبقاء في مربع الوهم, بأن حركة النهضة هي قدر التوانسة الذي لا يستطيعون منه فكاكاً.. الشماتة بالنهضة الان, وبعد أن «أجلسها» التوانسة في المرتبة الثانية ولم تعد تمتلك هامشاً كبيراً من المناورة, في ظل حصولها على ثلث مقاعد النواب (68 من اصل 217) نقول: الشماتة غير مقبولة بالنهضة, رغم ما ينطوي عليه سحب التوانسة التفويض الممنوح لها, والتي ظنت هي ومرشدها الروحي أنه تفويض مطلق ونهائي, فإليها – النهضة – يُعزى بعض الفضل في وصول المشهد التونسي الى راهنه الديمقراطي الهادئ وغير الفوضوي, أو المُرشح للذهاب للمجهول, رغم ارتكابات التكفيريين في جبل الشعانبي, فضلاً عن إسهام «النهضة» في اقرار الدستور الدائم للبلاد, الذي يصعب على احد أن يُنكر تقدميته وحداثته وانفتاحه, مقارنة بما كانت جماعة الاخوان المسلمين الأم (المصرية) تسعى الى تضمينه دستور مصر ما بعد ثورة 25 يناير, وكيف أُريد له أن يكون دستوراً مُتخلفاً وعلى مقاس تفكير وممارسات مكتب الارشاد, وبخاصة التيار القطبي (نسبة الى سيد قطب) السائد في الجماعة ومكتب الارشاد. «نداء تونس» حزب هجين, يقوده ثمانيني طامح للجلوس في قصر قرطاج (الباجي قائد السبسي) بورقيبي حتى العظم, ولم يكن من معارضي نظام بن علي, ولهذا ظهر آباء كثيرون لهذا الانتصار غير المتوقع, لحزب علماني يواجه حركة اسلاموية ذات جذور في المجتمع التونسي, فهناك أزلام بن علي كما هم البورقيبيون الجدد, إضافة الى هؤلاء الذين ضاقت بهم احزابهم المتكلّسة (أو ضاقوا بها). أن يحصد حزبان «ثلثي» مقاعد المجلس التشريعي الجديد, واقتسام باقي القوائم والاحزاب الاخرى الثلث الباقي, يعني قيام «ثنائية» قد لا تُسهم في تجذير التحوّل الديمقراطي, بل ربما تفتح الطريق على مواجهات وتراشقات وتربّص, وهو أمر قد يُعقّد ايضاً مهمة حزب نداء تونس في تشكيل حكومة إئتلافية, اذا ما أصرّ على استبعاد «النهضة» أو بالغت الاخيرة في مطالبها واشتراطاتها, فضلاً عما يمكن للاستحقاق الرئاسي أن يغيّر في التوجهات والحسابات والائتلافات, حيث بات الرئيس الباهت الحالي «المنصف المرزوقي» خارج اللعبة, رغم تَرشُحه للمنصب, ناهيك عن الاحتمالات المفتوحة لوصول السبسي الى قصر قرطاج, بفضل أصوات النهضة و»الأثمان» التي يترتب عليه أن يدفعها للغنوشي وانصاره في الحقائب الوزارية والمناصب العمومية. تونس تواصل إدهاشنا, ويبقى ان تعبر المرحلة الجديدة بأقل الخسائر الممكنة, حيث هناك أكثر من جهة محلية, اقليمية ودولية, ليس من مصلحتها, ان تنعم تونس بالهدوء والاستقرار وفضائل الديمقراطية. .. فلننتظر. ------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------ الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن مواقف صاحبها ولا تلزم موقع برلمان.كوم