إن جميع المقاربات التي حاولت إخضاع وتقييم التجربة المغربية في مواجهة الظاهرة الإرهابية والتطرف الديني لم تخرج على قاعدة بناء قناعتين فكريتين تلتقيان من حيث التحليل وتتباعد من حيث الاستنتاجات واقتراح البدائل الاستراتيجية والمعرفية لمواجهة هاته الظاهرة التي أصبحت تؤرق صانع القرار المغربي لاعتبارات ذاتية مرتبطة بالبيئة الاستراتيجية المغربية أو لاعتبارات موضوعية رهينة بعولمة ظاهرة الإرهاب وسهولة اختراق الأفكار المتطرفة للنسيج المجتمعي للمملكة، مما يفرض تعاطي جد ذكي مع هذه الظاهرة من مختلف جوانبها وتجلياتها. الأطروحة الأولى تذهب في اتجاه اعتبار التجربة المغربية مرجعا ونموذجا يحتدى به في مجال محاربة الإرهاب معتمدة، كمعطى للاستدلال، تفوق الأجهزة الأمنية المغربية في كسر شوكة التنظيمات العنقودية والخلايا النائمة للحركات المتطرفة. ويستدل أصحاب هذا الطرح، في ذلك، على عدد الخلايا التي قامت بتفكيكها الأجهزة الأمنية المغربية وكذا التدخلات الاستباقية الناجحة في هذا المجال مما أكسب هذه الأجهزة خبرة ونضجا أمنيا كبيرين في مواجهة التنظيمات المتطرفة العنيفة. هذا المعطى تسنده مجموعة من المعطيات والشهادات والتي جعلت العديد من الأنظمة الاستخباراتية الدولية تضع المغرب على رأس الشركاء الاستراتيجيين في مواجهة الظاهرة الإرهابية. الأطروحة الثانية، والتي أصحابها غالبا ما ينتمون للإطارت الدينية، تركز على أن النجاح الأمني في مواجهة التنظيمات المتطرفة يبقى "نسبي" و"غير مطَمْئِن" لاعتبارات يلخصها أصحاب هذا الطرح في ما يلي: أولا: لا يمكن الحديث عن نجاح أمني مطلق على اعتبار أن المملكة المغربية اكتوت بنار الهجمات الإرهابية أكثر من مرة وخسر فيها المغرب دماء عزيزة وارتدادات اقتصادية لا يمكن إنكارها. ثانيا: يمكن للتنظيمات المتطرفة أن تفشل في زعزعة الأمن القومي المغربي في عشرات المرات مع احتمال نجاح إحدى هاته المحاولات لاعتبارات لا يمكن دائما تفسيرها أو التحكم فيها وأو توقعها. وهنا يطرح إشكال نسبية نجاح أي مقاربة أمنية مهما كانت دقتها ووسائلها. ثالثا: من خلال تفكيك الأجهزة الأمنية لمجموعة من الخلايا الإرهابية، خاصة تلك المرتبطة إيديولوجيا وتنظيميا بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (المعروف إعلاميا بداعش)، يرى أصحاب هذا الرأي أن هاته التنظيمات نجحت في تخطي مجموعة من المراحل التكتيكية في التهييء لعملياتها الانتحارية والمرتبطة أساسا بالنجاح في اختراق الحدود المغربية وإدخال السلاح إلى الداخل المغربي وتجنيد الأفراد للقيام بالعمليات الانتحارية، وكذا التدرب على استعمال الأسلحة والسيارات المفخخة، ولم تنجح الأجهزة الأمنية في كشف هاته التنظيمات إلا في المراحل الأخيرة التي تسبق التنفيذ الفعلي لهاته المخططات التخريبية. رابعا: لايمكن الحديث عن نجاح المغرب في اجتثاث الفكر الإرهابي المتطرف والقضاء على البيئة المنتجة للشخصية القابلة والمستعدة لاستقبال موجات الفكر الإرهابي المتطرف. وقد أظهرت حادثة اغتيال السفير الروسي بأنقرة وكذا تفجير الملهى الليلي بتركيا حقيقة هذه الفكرة وإلى أي حد يظل الفكر المتطرف منتشرا بين مكونات واسعة من النسيج المجتمعي المغربي. من هذا المنطلق، يمكن التأكيد على أن الأطروحتين اللتين قمنا ببسطهما أعلاه تمتلكان، في نظرنا، قدرا كبيرا من التحليل الموضوعي وكذا عناصر الصحة في المناولة والتحليل والطرح الاستراتيجي الأمني. غير أننا نرى أن المقاربتين ركزتا على زاوية من زوايا الرؤيا وأسقطت باقي المحددات في الاستراتيجية المغربية لمواجهة التطرف والتنظيمات الإرهابية. وهنا يمكن الدفع في اتجاه أن المغرب نجح بشكل كبير على "المستوى المؤسساتي" في مواجهة تداعيات هذا الفكر العنيف عن طريق منظومة أمنية دقيقة وكذا المكانة الرمزية القوية لمؤسسة إمارة المؤمنين في توجيه المشترك الديني بين المغاربة وكذا المحافظة على الثوابت العقدية للأمة، بالإضافة إلى خطة إعادة هيكلة الحقل الديني والتي حدّت بشكل كبير من التسيب الذي كان يعاني منه هذا المجال، والذي كان مدخلا أساسيا من مداخل البناءات العقدية المتطرفة الواردة من المشرق. كما نشير إلى البعد التنموي الذي ارتكزت عليه الاستراتيجية المغربية لمواجهة الظاهرة الإرهابية من خلال العمل على القضاء على البيئة المنتجة للفرد الإرهابي، مما جعل من أولويات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية العنصر البشري كحلقة الضبط والربط الذي تدور حوله الاستراتيجية التنموية التي تبناها المغرب منذ سنة 2005. وفي سياقات الطرح والتحليل يمكن القول أن إمارة المؤمنين بالمغرب استطاعت أن "تفرض" خطا مذهبيا واضحا وواحدا هو امتداد لاختيارات عقدية تمتد إلى اثنا عشر قرنا، الشيء الذي نأى بالمغرب عن الدخول في صراعات عقدية وفقهية حول امتلاك الشرعية الدينية، ومن تم أغلق بابا مهما غالبا ما يكون مدخلا لنشر الأفكار المتطرفة التي تتبناها التنظيمات التكفيرية. إن التأكيد على كون الدين الإسلامي هو الدين الرسمي للمملكة ومركزية مؤسسة إمارة المؤمنين واختصاصها الحصري في تدبير الشأن الديني وحماية الأمن الروحي للمغاربة، جعل من المملكة المغربية عصِيّة على الاختراق من طرف كل تيار يخرج عن الوسطية والاعتدال والمذهب المالكي، وهو ما جعل إمارة المؤمنين بمثابة الحصن الحصين للمغاربة من مختلف التيارات الدينية خاصة المتطرفة منها والتي تكتوي اليوم العديد من دول الجوار بنيرانها وتتمزق شعوبها إلى فرق وشيع ومذاهب بسبب غياب مؤسسات دينية رسمية كان بإمكانها أن تشكل جدار صد رادع ضد هذا النوع من الاختراقات. في هذا السياق، وفي معرض خطابه بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب (20 غشت 2004)، أكد الملك محمد السادس على حرص المؤسسة الملكية على تحصين المجتمع المغربي من خطاب التطرف والكراهية والعنف بالقول: "في عصر يسوده اهتزاز المرجعيات العقائدية، وتصاعد الأصوليات الهوجاء، فإننا حريصون على تحصين ووقاية مجتمعنا، من مخاطر التعصب والتزمت والانحلال، المحدقة بعالمنا اليوم" . ويرى جلالة الملك أن هذا الحرص "لن يتأتى لنا ذلك إلا بتنشئة شبابنا على المواطنة الإيجابية…وتشجيع المواهب المبدعة والمنتجة، عوض إشاعة الإحباط والإعاقة والتيئيس، فضلا عن التشبع بالوسطية والتسامح والعدل، وحسن الجوار والسلام، ونبذ التطرف والكراهية والتفرقة والإرهاب والعدوان". وبالإضافة إلى الدور المركزي ذو الرمزية القوية "لإمارة المؤمنين" في المغرب، فإن المملكة عملت على إعادة هيكلة حقلها الديني من أجل تدارك بعض مكامن الخلل في تسيير هذا المجال السيادي عبر العديد من الإجراءات التي جعلت التجربة المغربية رائدة في مجال مكافحة الفكر المتطرف، بل وجعلت من التجربة المغربية مرجعا يتم اعتماده في الكثير من البلدان والتي رأت في التجربة المغربية أداة مؤسساتية فعالة في مواجهة التنظيمات المتطرفة. ويمكن القول، بكثير من التحفظ، أن المغرب قد دفع غاليا ثمن إهماله للشأن الديني بالمملكة مما أدى إلى الأحداث المأساوية ليوم 16 ماي 2003م. ومنذ ذلك الحين حاول المغرب استدراك مكامن الخلل وسد الثغرات التي يمكن أن تشكل تهديدا للأمن الروحي للمغاربة وللأمن القومي للمملكة بصفة عامة عبر مبادرة الملك محمد السادس لإعادة هيكلة الحقل الديني وفق استراتيجية مندمجة وشمولية من خلال إعادة هيكلة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وفق ظهير شريف يقضي بإحداث مديرية للتعليم (الإسلامي) العتيق، وأخرى مختصة بالمساجد، وإعادة النظر في التشريع المتعلق بأماكن العبادات، بما يكفل ملاءمتها للمتطلبات المعمارية، لأداء الشعائر الدينية، وكذا ضبط مصادر تمويلها وشفافيتها وشرعيتها واستمراريتها مع تعيين مناديب إقليميين لوزارة الشؤون الإسلامية للسهر على التدبير الميداني الحديث للشأن الإسلامي. وإذا كنا نتفق حول اعتبار مجال الفتوى، من المجالات الحساسة التي تحاول استغلالها بعض الرموز والتيارات التي تدعي تمثيلها للفهم الإسلامي "الصحيح"، وكذا ضرورة احتكار الفتوى من طرف هيئة علمية متمكنة من "علم الإفتاء وفقه النوازل" وفق الثوابت الدينية التي تحكم المشترك الديني عند المغاربة، فإننا "نتحفظ" على بعض الأطروحات التي دفع بها السيد أحمد توفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي عندما صرح بالقول: "وقد اقتضى هذا المنطق والانسجام أن تختص مؤسسة المجلس العلمي الأعلى بالفتوى في الأمور التي تهم الحياة السياسية والاجتماعية، بينما يظل ما يصدر عن الأفراد من القول في الدين مجرد آراء تكفلها الحرية، ما لم يجرمها القانون. وقد بينت التجربة الحية في المغرب، أنه مع مرور الأيام، وباستتباب سلطة المؤسسة العلمية في هذا المجال، ارتقى الوعي العام لدى الناس في التمييز بين الفتوى الجماعية الصادرة عن المؤسسة المختصة، وبين التصريحات المرتجلة من مختلف المنابر، سواء كان أصحابها من المعتدلين أو من المتشددين" . وهنا مكمن الداء ومدخل البلاء، حيث أن مجموعة من الفتاوى التي يطرحها بعض "المتشددين" تجد لها أتباعا ومريدين، خصوصا وأنها تعتمد في تقعيداتها الفقهية على بعض الاجتهادات من كتب التراث والتي يعتمد عليها هؤلاء في إصدار بعض الفتاوى الشاذة. وهنا وجب التنبيه إلى أنه على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التنبيه إلى تجريم جميع محاولات الإفتاء خارج المؤسسات المعترف بها في هذا المجال، وذلك راجع لصعوبة الفصل بين ما يمكن اعتباره "حرية فردية" وبين ما يدخل في نطاق التأثير على المشترك العقدي لجميع المغاربة. مردُّ هذا الطرح يرجع إلى بعض الحوادث المؤسفة التي تعرفها الساحة الدولية والمرتبطة أساسا باختراق بعض الأفكار المتطرفة للمجتمع المغربي كان آخرها بمناسبة مقتل السفير الروسي بأنقرة أندريه كارلوف على يد أحد المتطرفين الذي يدعى مولود ألطنطاش، وهو ما خلق، داخل المغرب وللأسف، موجة من الفرح والابتهاج دفعت البعض إلى اعتبار القاتل "شهيد" مع الدعوة إلى أن يقتدي باقي الشباب بهذا الإرهابي المجرم. وإذا ما استثنينا ردة الفعل القوية للأجهزة الأمنية المغربية التي باشرت حملة من الاعتقالات والتحقيقات مع من تورطوا في الإشادة بهذا الفعل الإرهابي، فإن متابعتنا لصفحات بعض "شيوخ الفتنة" تفيد بأن هذا الفكر التكفيري له أتباع بالآلاف في المملكة وأصبحوا يجيزون مثل هاته العمليات الإرهابية ويبحثون لها عن المبررات الدينية التي لن تجد عناءا في بلورتها انطلاقا مما تحويه كتب التراث الإسلامي. غير أن هذه الأطروحات الفقهية للتنظيمات التكفيرية، لا يمكن في نظرنا، أن تتم معالجتها أو مقاربتها بالبساطة العلمية التي نظر لها السيد أحمد التوفيق، حيث أن صناعة التطرف الديني التي تغذي العنف والإرهاب، لم تجد حتى الآن، على الأقل من وجهة نظر شخصية، استراتيجية فكرية واضحة المعالم لمواجهة هذا الفكر المتشدد. وتراجعت المؤسسات الدينية والتربوية والثقافية عن الساحة فملأت فراغها لعقود طويلة ونالت منها الجماعات المتشددة نصيبا موفورا. إن استراتيجية مواجهة الإرهاب ينبغي أن تتجاوز مسألة الإصلاح البنيوي والمؤسساتي إلى ضرورة فتح نقاش عقدي وفقهي عميق حول الإرهاصات الحقيقية لتشكل وتبلور الفكر المتطرف وطبيعة الأفكار التي تتبناها التنظيمات التكفيرية. هذا المعطى يفرض على المؤسسات الدينية بالمملكة التحلي بالشجاعة العلمية والأخلاقية، وقبل هذا وذاك، الشجاعة الدينية في الاعتراف أن كتب التراث الإسلامي، وللأسف، كانت هي المفرخة التي أنتجت لنا مثل هاته التنظيمات العنيفة والمتطرفة. في هذا السياق، مخطئ من يعتقد أن الأفكار التي تتبناها جماعات متطرفة من أمثال القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وتنظيم جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد (بوكو حرام) بنيجيريا وغيرها من التنظيمات "الجهادية"، هي من صنع قادتها أو اجتهادات منظريها. بل إن الحقيقة المرة والتي لا يريد أي أحد الحديث عنها بالقدر الكافي من الشجاعة الدينية، هو أن هاته التنظيمات قد استقت أفكارها وأحكامها الفقهية من أحاديث تنسب للجناب النبوي الشريف ومجموعة من الفتاوى التي ملئت بها كتب التراث الإسلامي. هذا المعطى الخطير، يفرض على المملكة المغربية تصحيح اتجاهات الإصلاح وطرح إجابات فقهية مقنعة للمتلقي المغربي حول إشكالات جوهرية تعد مدخلا لتأويلات متطرفة للتنظيمات الإرهابية من قبيل مسائل "الحاكمية والجاهلية" و"توحيد الألوهية والربوبية" و"عقيدة الولاء والبراء" ومسألة "الحكم بغير ما أنزل الله" وتحديد العلاقة بين المسلمين وغيرهم فيما يصطلح عليه في كتب التراث ب"دار الإسلام ودار الحرب"، بالإضافة إلى طرح الأحاديث التي تنسب إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والتي تتعارض ظاهريا مع روح النص القرآني للنقد والتحليل بعيدا عن تقديس بعض المراجع الفقهية أو مصادر الرواية مهما بلغت درجة صحتها. هو إذا التحدي الجوهري أمام المؤسسات الدينية بالمملكة من أجل إماطة اللثام على مجموعة من الإشكالات الفقهية التي يطرحها المواطن المغربي بصفة خاصة والمسلمون بصفة عامة، والذي من شأنه تقديم إجابات حقيقية ومقنعة حولها أن يقطع الطريق على بعض شيوخ الفتنة والتي تستغل "سكوت" المؤسسات الشرعية في المملكة من أجل ملئ الفراغ وتسميم العقول ببعض الفتاوى الشاذة والتي تجد، وللأسف، ما يسندها ويقويها في كتب التراث الإسلامي. “برلمان.كوم” ينشر المقال باتفاق مع الباحث عبد الحق الصنايبي