اعلن القضاة الفرنسيون في بلاغ قوي للغاية رفضهم الانخراط في لعبة الرئيس إيمانويل ماكرون ودولته العميقة والظاهرة وأدرعه الإعلامية والموسساتية. بل أنهم لم يتصفوا في ذلك بمواقف فردية، بل تجاوز ذلك إلى بلاغ قوي اللهجة من لدن نقابة قضاة البلد "syndicat de la magistrature" ترفض فيها القيام بدور المطبل للمقاربات القمعية لدولة ماكرون. ورفض القضاة ينضاف إلى رفض العديد من المفكرين النزهاء والأصوات الحرة لما يراد لها من أدوار بخيسة ورديئة ومناهضة للتاريخ المشرق للأنوار في فرنسا ديدرو وفولتير وسارتر وغيرهم من عمالقة الحرية والإنسانية.. فرنسا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فرنسا الثورة الشهيرة فرنسا ميثاق حقوق الإنسان والمواطن فرنسا هاته تترنح وتكاد تغيب عن فرنسا التي تملأ شاشات العالم، إلا شاشات إعلامها! فرنسا المعشوقة الإنسانية أصبحت نموذجا لما يجب أن يخاف منه الناس في القرن الواحد والعشرين.. هناك سعي إلى التغطية على جريمة قتل، دافعها عنصري مقيت بتقييد حق القتلى في العدالة وفي تقزيم حق المجتمع في التعبير عن رفضه لها، وفي محاولة الزج بالأصوات الحرة في أسطوانة التبرير الذي يدعو اليه ماكرون... المجتمع مازال يصارع ضد الإنحراف الذي عبّر عنه بيير روزانفالون المؤرخ والباحث الشهير عندما اتهم ساكن الإليزيه ب «الانزلاق نحو الاستبداد» وتحريف فرنسا قلعة حقوق الإنسان عن تاريخها وجذورها ومحاولة الاقتصار على توظيف هذا التاريخ ضد الآخرين.... وهو ما عبرت عنه المؤرخة ماتيلد لرير، المختصة في ثورات القرن التاسع عشر في فرنسا والمواطنة، بقولها « نعيش مرحلة من السرعة في تفكيك قواعدنا الديمقراطية ودولة الحق والقانون. هو انحراف سلطوي واضح»! بعد قتل الأبرياء، لجأت فرنسا إلى تطويق كل أشكال التعبير الغاضب أو المتضامن أو المتسائل، وشاهدنا، ما لم نشاهده منذ أيام ميلاد الفاشية، وميلاد القمصان السود مع بينيتو موسيليني، الدولشي! هؤلاء الذين كانوا يهيئون شروط ميلاد الدولة بتاريخها الفاشي وشرعوا لها الهجوم على المخالفين والتنكيل بهم في الطرقات، عبر تنظيم حملات جماعية ضد المتظاهرين كما حدث في أنجيرز angers ... فرنسا أصبحت موضوعا قارا لدى المجلس الأممي الحقوق الإنسان، في قضايا المسلمين والمهاجرين والمحجبات وحقوق الهاربين من الجحيم... ونذكر أنه منذ شهرين فقط (ماي الماضي) وجهت الأممالمتحدة انتقادات إلى باريس على خلفية هجمات ضد مهاجرين وتنميط عنصري وأعمال عنف تمارسها الشرطة، وذلك خلال اجتماع عقده مجلس حقوق الإنسان في الهيئة الأممية للنظر في سجل فرنسا على هذا الصعيد... بل إن ممثلة الولاياتالمتحدة كيلي بيلينغسلي قد أوصت « فرنسا بتعزيز جهودها على صعيد مكافحة الجرائم والتهديدات بالعنف بدافع الكراهية..». هل بعد هذا يمكن لفرنسا وإعلامها أن يعطي الدروس في الحرية والديموقراطية والتعددية؟ آن الأوان، على العكس من ذلك أن تتلقى الدروس في الحريات، من الذين طالما رفعتها فوق روؤسهم مثل سيف ديموقليس الشهير!