يحتاج إنتاج الخطاب إلى لغة، وتحتاج اللغة إلى حمولة قد تكون حيادية وقد تكون متآمرة. وعادة ما تصبح هذه الحمولة، المتآمرة منها، موجهة نحوالمجتمع بغرض توجيهه أو تحريضه ضد مؤسسات الدولة. وهذا ما يُطلق عليه في علم اللسانيات اسم "سلطة اللغة" التي تقوم على بناء جهاز مفاهيمي تخريبي، أحيانا، يهدف إلى تحقيق أغراض تتعدى الخطاب نفسه، وتتخذ صورا منها المغالطة والتسفيه والتمويه وتوجيه الرأي العام وخداعه، وهنا تقوم بعض المفردات المستخدمة بتحويل أفعال خطابية عدائية إلى أفعال خطابية جادة، ومن ذلك مثلا النقاش الدائر اليوم حول "البنية السرية". يبدأ الخطاب حول هذه البنية بالتخويف، والغرض من ذلك وضع مؤسسات الدولة خارج الشرعية، وهذا في حد ذاته جزء من العملية الخطابية المعادية.وهكذا يرسم أصحاب هذا الخطاب البنية السرية في شكل جهاز الأمن والداخلية وإدارة السجون وأجهزة المخابرات ثم بعض مستشاري الملك. ولأن الغرض هو التخويف فإن اللغة المستخدمة لا تنصرف إلى البنية/ المؤسسة بل تركز على شخصنة هذه المؤسسات وتصويرها على أنها دولة داخل الدولة، والغرض من ذلك مغالطة الرأي العام في مرحلة أولى ثم تسفيه جهودها في مرحلة لاحقة من خلال إطلاق تسميات بحمولة سلبية مثلما فعل الأمير مولايهشام حينما وصف ذات يوم في مقالة له جهاز الأمن ب"المقاولة الأمنية"، مستخدما حقلا معرفيا من قاموس اقتصاد السوق لتوصيف المؤسسة الأمنية، مع ما يحمله هذا النعت من مواقف سلبية ومحرضة. طبعا، من الخطأ الجري وراء محاولة فهم "البنية السرية"، لكن يبدو مهما تفكيك بنية الخطاب والجهاز المفاهيمي المستخدم وخلفياته ولماذا يستهدف هذا الخطاب مؤسسات وأشخاص بعينهم. وما علاقة كل ذلك بالمعارك الدبلوماسية والسياسية والأمنية التي تقودها المملكة المغربية وتوقيتها. وماذا يعيب الدولة أن تكون لها بنية لها دينامية خاصة، بوصفها نظاما لا يعرف غير نسقه الخاص؟ ثم أليس من خصائص "البنية" الحفاظ على أسباب استمراريتها؟ بغض النظر عن المواقف التي تتشكل في محيطها. فالبنية تارة لها مواقف طاردة وتارة أخرى جاذبة، وربما هذا ما حدث بالفعل مع مجموعة من "أشباه المناضلين" الذين ظنوا بداية أنهم جزء من البنية بإعلامهم ومقالاتهم قبل أن يجدوا أنفسهم خارج هذه البنية فتحولوا إلى معارضينفي الخارج! لاحقا سوف يُدرك كل هؤلاء أن للبنية قوانينها الخاصة بها والتي تجعلها قادرة على التجدد دون حاجة لعوامل مساعدة ولا لأجندة ضاغطة. في كتلا الحالتين سواء تعلق الأمر بتوصيف "المقاولة الأمنية" أو بلفظ "البنية السرية"، فإن القصد هو استهداف مؤسسات الدولة، وتصويرها كأجهزة تشتغل خارج القانون وتأليب الرأي العام ضدها، وذلك عبر تجريب استخدام جهاز مفاهيمي للتسويق الإعلامي يُضمر مخاطر حقيقية عبر تداول خطاب/ بنية من الرموز تُستخدم ضد رموز الدولة، يتم ترويجها بين مجتمع المتحدثين بما يحمله هذا الأخير من جاهزية لإعادة استخدامها وتداولها على أساس أنها حقيقة، والحقيقة أنها مغالطات غرضها التسفيه أو التهويل والتخويف وبناء صورة نمطية سلبية تترسخ في أذهان المجتمع تحت مسميات "البنية" وغيرها... إن استخدام سلطة اللغة فكرة مميزة، تطورت بين أحضان المدرسة الأمريكية للعلوم السياسية مع مفكرين أمثال ألموند غابرييل وجين شارب وغيرهم، فاستخدموا عبارات وظيفية بديلة هي أقرب إلى التنظير من الممارسة، من قبيل الوظائف بدل السلطات والأدوار بدل المناصب والنظام السياسي بدل الدولة. فقد وظفوا اللغة في إعادة بناء التصورات العامة حول السياسة والمؤسسات. بالمقابل، ذهب "جين شارب" إلى أبعد من التنظير فاشتغل على إعادة بناء جهاز مفاهيمي قادر على تخريب الدول في إطار ما يسميه ب"الإطار التصوري للتحرر"، جعل من بين وظائف هذا الخطاب هدم أركان النظام السياسي دون حاجة للعنف من خلال استهداف المؤسسات التي يرتكز عليها النظام مثل الجيش والشرطة والمؤسسات السيادية داخل الدولة، وبالتالي العمل على تفكيك النظام عبر فصله عن مؤسساته كنوع من التحدي السياسي، وهذا ما يقصده فعليا، اليوم، أصحاب أطروحة "البنية السرية".