عفو ملكي على 1304 أشخاص بمناسبة ذكرى 11 يناير    اطلاق ثلاث خطوط جوية جديدة تربط الصويرة بباريس وليون ونانت ابتداء من أبريل المقبل    رواية "بلد الآخرين" لليلى سليماني.. الهوية تتشابك مع السلطة الاستعمارية    طنجة : الإعلان عن الفائزين بجائزة بيت الصحافة للثقافة والإعلام    المنتخب المغربي يودع دوري الملوك    مراكش... توقيف مواطن أجنبي مبحوث عنه بموجب أمر دولي بإلقاء القبض    حرائق لوس أنجلوس .. الأكثر تدميرا والأكثر تكلفة في تاريخ أمريكا (فيديو)    مراكش تُسجل رقماً قياسياً تاريخياً في عدد السياح خلال 2024    تهنئة السيد حميد أبرشان بمناسبة الذكرى ال81 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال    وزير الخارجية الفرنسي "يحذر" الجزائر    توقيف شخصين في مراكش بتهمة النصب والاحتيال وتزوير وثائق السيارات    "الباطرونا" تتمسك بإخراج قانون إضراب متوازن بين الحقوق والواجبات    مدن مغربية تندد بالصمت الدولي والعربي على "الإبادة الجماعية" في غزة    إيكال مهمة التحصيل الضريبي للقطاع البنكي: نجاح مرحلي، ولكن بأي ثمن؟    هذا ماقالته الحكومة عن إمكانية إلغاء عيد الأضحى    مؤسسة طنجة الكبرى في زيارة دبلوماسية لسفارة جمهورية هنغاريا بالمغرب    الملك محمد السادس يوجه برقية تعزية ومواساة إلى أسرة الفنان الراحل محمد بن عبد السلام    المناورات الجزائرية ضد تركيا.. تبون وشنقريحة يلعبان بالنار من الاستفزاز إلى التآمر ضد أنقرة    أحوال الطقس يوم السبت.. أجواء باردة وصقيع بمرتفعات الريف    الضريبة السنوية على المركبات.. مديرية الضرائب تؤكد مجانية الآداء عبر الإنترنت    اللجان الإدارية المكلفة بمراجعة اللوائح الانتخابية العامة تعقد اجتماعاتها برسم سنة 2025    الملك محمد السادس يهنئ العماد جوزيف عون بمناسبة انتخابه رئيسا للجمهورية اللبنانية    توقف مؤقت لخدمة طرامواي الرباط – سلا    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    إيداع 10 علامات تجارية جديدة لحماية التراث المغربي التقليدي وتعزيز الجودة في الصناعة الحرفية    أسعار النفط تتجاوز 80 دولارا إثر تكهنات بفرض عقوبات أميركية على روسيا    أغلبهم من طنجة.. إصابة 47 نزيلة ونزيلا بداء الحصبة "بوحمرون" بسجون المملكة    فيلود: "المواجهة ضد الرجاء في غاية الأهمية.. وسنلعب بأسلوبنا من أجل الفوز"    "الأحرار" يشيد بالدبلوماسية الملكية ويؤكد انخراطه في التواصل حول مدونة الأسرة    تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، محطة نضالية بارزة في مسار الكفاح الوطني من أجل الحرية وتحقيق السيادة الوطنية    القِرْد سيِّدُ المَشْهد !    ميناء الحسيمة يسجل أزيد من 46 ألف من المسافرين خلال سنة 2024    جماعة طنجة تعلن نسبة تقدم أشغال تأهيل معلمة حلبة ساحة الثيران    من هو جوزيف عون الرئيس الجديد للبنان؟    وفاة صانعة محتوى أثناء ولادة قيصرية    حوار بوتين وترامب.. الكرملين يعلن استعدادا روسيا بدون شروط مسبقة    بوحمرون: 16 إصابة في سجن طنجة 2 وتدابير وقائية لاحتواء الوضع    "بوحمرون.. بالتلقيح نقدروا نحاربوه".. حملة تحسيسية للحد من انتشار الحصبة    بوحمرون يواصل الزحف في سجون المملكة والحصيلة ترتفع    ملفات ساخنة لعام 2025    تحذير رسمي من "الإعلانات المضللة" المتعلقة بمطارات المغرب    عصبة الأبطال الافريقية (المجموعة 2 / الجولة 5).. الجيش الملكي من أجل حسم التأهل والرجاء الرياضي للحفاظ على حظوظه    صابرينا أزولاي المديرة السابقة في "قناة فوكس إنترناشيونال" و"كانال+" تؤسس وكالة للتواصل في الصويرة    "جائزة الإعلام العربي" تختار المدير العام لهيسبريس لعضوية مجلس إدارتها    ارتفاع مقلق في حالات الإصابة بمرض الحصبة… طبيبة عامة توضح ل"رسالة 24″    اتحاد طنجة يعلن فسخ عقد الحارس بدر الدين بنعاشور بالتراضي    السعودية تستعد لموسم حج 2025 في ظل تحديات الحر الشديد    الحكومة البريطانية تتدخل لفرض سقف لأسعار بيع تذاكر الحفلات    فضيحة تُلطخ إرث مانديلا... حفيده "الرمز" في الجزائر متهم بالسرقة والجريمة    بطولة إنجلترا لكرة القدم.. إيفرتون يفك الارتباط بمدربه شون دايش    مقتل 7 عناصر من تنظيم "داعش" بضربة جوية شمال العراق    النظام الجزائري يخرق المادة 49 من الدستور ويمنع المؤثر الجزائري بوعلام من دخول البلاد ويعيده الى فرنسا    الكأس الممتازة الاسبانية: ريال مدريد يفوز على مايوركا ويضرب موعدا مع برشلونة في النهائي    الآلاف يشاركون في الدورة ال35 للماراطون الدولي لمراكش    أخذنا على حين ′′غزة′′!    الجمعية النسائية تنتقد كيفية تقديم اقتراحات المشروع الإصلاحي لمدونة الأسرة    فتح فترة التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1447 ه    وزارة الأوقاف تعلن موعد فتح تسجيل الحجاج لموسم حج 1447ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإرهاب ودعوى الجهاد
نشر في برلمان يوم 21 - 06 - 2016

يتستر بعض الإرهابيين وراء الجهاد في سبيل الله، ويبررون ما يرتكبونه من جرائم في حق أنفسهم، وفي حق غيرهم، بأنهم يمارسون فريضة إسلامية هي فريضة الجهاد.
ويبدو هذا التبرير، وذلك التستر – أكثر ما يبدو – من حرص بعضهم على وصف الجماعة التي ينتمي إليها، ويرتكب ما يرتكب تحت مظلتها، بأنها جهادية أو مجاهدة أو ما إليهما.
فهل هذه الدعوى صحيحة؟، وهل هذه الشبهة التي يثيرونها مقبولة؟، وهل هم حقا مجاهدون في سبيل الله؟
إن الجواب عن هذه التساؤلات لن يكون إلا بالنفي القاطع، لأن الدعوى التي لا يسندها دليل ملموس، تظل مجرد دعوى، ولا تتحول إلى حقيقة، ما دامت لا تعكس الواقع.
و الدعاوي ما لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء1
و دعوى هؤلاء من هذا القبيل، وشُبهتهم من ثَم كاسدة، لا تصمد للنقاش، ولا تروج في سوق النقد والتمحيص، ولا ينطلي خطؤُها المكشوف إلا على المغفلين السذج، الذين يُصَدقون كل ما يسمعون، ولا يميزون بين غث الأقوال وسمينها. ونحن لا نريد لأبناء المسلمين أن تنطلي عليهم حيل المحتالين، وأباطيلُ المبطلين، وأن يقعوا تحت تأثير الدعاية والتزوير، فينساقوا وراء المخادعين، ويظنوا أن هذه الجرائم الإرهابية- التي تُرتكب في شرق الدنيا وغربها، وتدمي القلوب السليمة، وتملأ النفوس السوية ألما وحسرة وأسفا – أعمال صالحة، مرغب فيها شرعا. لا نريد أن يلبسوها ثوب الإسلام، لأنه لا يناسبها ولا تناسبه، وكيف يناسبها أو تناسبه، والإسلام الحق بريء منها براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام؟
إننا نريد من أبناء المسلمين الذين تُستغل طيبوبتهم، وعاطفتهم الدينية، ويُغَرَّر بهم، أن يعرفوا حقيقة الإسلام، وحقيقة ما يروجه أصحاب الأطماع الخفية والمكشوفة، وأن يعرفوا من ثَم أن الإسلام الحنيف الحكيم الرحيم، لا يعلم أتباعَه الحقد والبغضاء، وسفك الدماء، وإزهاق أرواح الأبرياء، ونسف معالم الحضارة، بل يعلمهم – على العكس من ذلك – المحبة الإنسانية، والرحمة والتعاون، يعلمهم كيف يبنون لاَ كيف يهدمون، وكيف يُحسنون، لا كيف يسيئون، وكيف يسهمون في بناء الحضارة الإنسانية الراقية، لا كيف يسهمون في نسفها، وتقويض أركانها.
إن الإرهابيين بكل تأكيد، لا يَصْدرون عن الإسلام السمح، وإنما يَصْدرون عن أهوائهم المنحرفة، وأذواقهم المريضة، وأمزجتهم المختلة، وتصوراتهم الفاسدة، وعن جهل فادح بالإسلام وسماحته ومرونته ورحمته ونبله ومثله وأحكامه، وعن تغرير ماكر من جهات لها مصلحة ما في الفوضى والاضطراب.
و سنحاول فيما يلي أن نفتح الأقفال، ونزيل الإشكال، وأن نضع النقط على الحروف، ليتبين الرشد من الغي، ويرى الصبح كل ذي عينين، و”ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيِىَ عن بينة”2.
أولا: الإرهاب لا يصدق عليه تعريف الجهاد
إذا قارنا بين تعريف الجهاد المتداول عند علماء المسلمين، وهو قول ابن عرفة: الجهاد: “قتال مسلم كافرا غير ذي عهد، لإعلاء كلمة الله، أو حضورُه له، أو دخول أرضه”3، وما يرتكبه الإرهابيون من أفعال غاية في السوء والبشاعة يتبين لنا بوضوح تام أن ما يرتكبونه بعيد عن الجهاد في سبيل الله بُعد السماء عن الأرض.
1 – فالجهاد بمقتضى هذا التعريف هو قتال المسلم للعدو المحارب، والعدو المحاربُ، هو المراد في التعريف بالكافر غير المعاهَد، وهو المراد بالناس في قوله صلى الله عليه وسلم : “أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله …” الحديث4، وهو المراد بالمشركين في قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهرُ الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم …)5، كما قال ابن العربي في «أحكام القرآن»6.
و الإرهابيون يقاِتلون ويقتُلون المسلمين والذِّميين المعاهَدين، وقتالُ هذين الصنفين ليس بجهاد باتفاق، بل هو معصية كبيرة.
أما قتال المسلمين وقتلهم فِلنصوص شرعية كثيرة، منها: قوله تعالى: (ومن يقتل مومنا متعمِدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضِبَ الله عليه ولعنه وأَعد له عذابا عظيما)7. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا ترجعوا بعدي كفارا يضربُ بعضكم رقاب بعض”8. وقوله صلى الله عليه وسلم: “سِبَاب المسلم فسوق، وقتاله كفر”9، وقوله صلى الله عليه وسلم: “قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا”10.
و أما قتال المعاهَدِين وقتلهم فلورود نصوص شرعية عديدة كذلك تحرم على المسلمين الاعتداء على الذميين والمستأمنين، سواء تعلق الاعتداء بأنفسهم أو تعلق بأموالهم أو تعلق بأعراضهم.
ومن هذه النصوص قوله صلى الله عليه وسلم: “من قتل معاهدا لم يَرِح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما”11، وقوله صلى الله عليه وسلم: “من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمرها”12، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا أَمَّن الرجل الرجل على نفسه ثم قتله، فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافرا”13.
2 – والجهاد بمقتضى هذا التعريف كذلك يستهدف إعلاء كلمة الله، والإرهابيون –حسب قرائن كثيرة – يحاربون لأهداف أخرى، منها السيطرة والحكم وتبوؤ مراكز القيادة والتوجيه.
ثانيا: انعدام ظروف وشروط الجهاد:
الظروف التي تحيط بالمسلمين اليوم، وتحيط بالعالم كله من حولهم، ليست ظروف حربٍ وجهاد بالسيف، بل هي ظروف خاصة دقيقة تفرض على المسلمين أن يحتاطوا ويحذروا، ويتبينوا مواقع خطاهم، ويتحاشوا الأخطاء، والمغامرات، ويحسبوا لكل خطوة يعتزمون خَطْوها ألف حساب. وعلى المسلمين في ظل هذه الظروف الصعبة أن يتوجهوا إلى أنواع أخرى من الجهاد ليس فيها سل السيوف، ولا خوض المعارك، وليس فيها قتلى ولا جرحى، وليس فيها ما تجره الحروب من المآسي والكوارث الإنسانية، وذلك بأن يتوجهوا إلى:
الجهاد الأكبر، الذي هو مجاهدة النفوس بتكوينها وتهذيبها وتزكيتها، وتأهيلها لتحمل مسؤولية الخلافة في الأرض بصدق وصبر وجد وإخلاص، بعيدا عن سيطرة الرعونات والأهواء، وبعيدا عن اللامبالاة والكسل والعجز.
الجهاد بالفكر، ويكون بترويضِ العقل وصقله، واستخدامه فيما يفيد البشرية، ويرقّي حياتها، ويجعلها قادرة على ابتكار الحلول الناجعة لمشاكلها، لتتقدم بسرعة وثبات نحو الأفضل والأليق والأصلح.
الجهاد بالقلم، ويكون بتأليف الكتب النافعة، وتحرير المقالات المنورة للفكر البشري، ورد الشبه والتهم الملصقة زورا بالإسلام والمسلمين، وتصحيح الأخطاء، وتبيين ما انبهم، وتوضيح ما غمض.
الجهاد بالمال، ويكون بالإنفاق بسخاء في ميادين الخير المتنوعة، إعانة للمحتاجين وإغاثة للملهوفين، وإسهاما في التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
أما الجهاد بالسيف، فأوضاع المسلمين الحالية والظروف العالمية الراهنة، لا تساعد عليه، بل تجعله متعذرا –إن لم نقل مستحيلا-، وتحدي هذه الظروف من قبل فرد أو جماعة جهل بطبيعة الأشياء، ومغامرة غير محسوبة النتائج، والمقدمات الخاطئة لا تعطي إلا النتائج الخاطئة.
و معلوم أن الجهاد بالسيف لا يلتجئ إليه المسلمون إلا في حالة الضرورة، أي عندما يعتدي عليهم أعداؤهم، وتفشل الوسائل السلمية في رفع الاعتداء، فالجهاد من هذه الناحية شبيه بالكيّ الذي هو آخر الدواء.
و ذلك أن الإسلام حريص حرصا أكيدا على نشر السلم في العالم، لما يوفره للناس جميعا من جو إنساني منعش، يساعدهم على تمتين أواصر الأخوة والمحبة بينهم، ويحملهم على التعارف والتعاون، والتفكير في الخير والنفع، ولذلك ألح الإسلام على السلم، فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)14، وقال عز من قائل: (و إن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله )15، وألح على التعارف وما يتولد عنه من تعاون وتبادلٍ للمصالح، فقال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائلَ لتعارفوا …)16 وقال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)17، وهذا ما جعل الحرب في الإسلام- على مر تاريخه المشرق- حربا دفاعية، لا يلبس المسلمون لاَمَتَها، ولا يوقدون نارها إلا إذا اضطروا لذلك، بأن اعتدى عليهم عدوهم فمس بسوءٍ دينهم أو مالهم أو عرضهم أو أرضهم، ولم تُجْدِ معه المساعي السلمية، ففي مثل هذه الحالة يعطي الإسلام للمسلمين حقهم الطبيعي، ويبيح لهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ويحموا بيضتهم، ويصونوا دينهم وكرامتهم وأرضهم.
وارتباط الحرب في الإسلام بالدفاع، أي بسبق اعتداء العدو على المسلمين، مفهوم من نصوص شرعية كثيرة، من مثل قوله تعالى: (أُذِنَ للذين يُقَاتِلُون بأنهم ظُلِمُوا…)18، وقوله تعالى: (و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)19، وقوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)20، وقوله تعالى: (وقاتِلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)21.
و انطلاقا من هذه النصوص – وغيرها كثير – قرر جمهور المحققين من علماء الإسلام أن أساس العلاقات الدولية في الإسلام هو السِلم لا الحرب، وأن الحرب استثناء، وليس القاعدة22.
وإذا أضفنا إلى ذلك كله أن المسلمين ارتبطوا في عصرنا الحاضر بغيرهم بأوفاق دولية متنوعة، وتبادلوا معهم السفراء، وطبعوا العلاقات، وأبرموا معاهدات كثيرة، تبَيَّنَ لنا بجلاء أن ظروف الجهاد بالسيف غير قائمة الآن. ومعلوم كذلك أن المسلمين يتسمون الآن بالضعف المادي والمعنوي، ومن شروط الجهاد الاستطاعة، وتكون بالصحة، وبما يحتاج إليه الجهاد من مال كثير، وعتاد حربي متطور، والمسلمون لا يتوفرون على هذه الاستطاعة، فإقبالهم على الجهاد في هذه الظروف العصيبة مغامرة وانتحار، لعدم تكافؤ الفرص.
و يضاف إلى ذلك أن من شروط الجهاد – إذا لم يتعين – إِذن الأبوين، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: أَحَيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: “ففيهما فجاهد”23.
و في حديث أبي سعيد الخدري: “فارجع فاستأذنهما، فإن أَذِنَا لك فجاهدْ، وإلا فبَرَّهما”24.
وأجمع جمهور العلماء على حِرمة الجهاد على الابن إذا منعه أبواه المسلمان أو أحدُهما، لأن بِرَّهُما فرض عين، والجهاد فرض كفاية”25.
و الإرهابيون الشبان يغامرون، ويجاهدون في زعمهم، دون إذن آبائهم، بل يقومون بما يقومون به على الرغم من معارضة آبائهم لهم، وإنكارهم عليهم، وفي ذلك عقوق لهم.
ثالثا: انعدام آداب الجهاد
أحاط الإسلام الجهاد المشروعَ بآداب رفيعة، تطبعه بطوابع السماحة، والرحمة والنبل، وتجعله أرحم حرب وأعدلها، ومن تلك الآداب:
وجوب عرض الإسلام على العدو قبل محاربته.
تحريم قتل الأطفال الذين لا ذنب لهم.
تحريم قتل النساء اللائي لا يشاركن في الحرب ضد الإسلام والمسلمين.
تحريم قتل الرهبان الذين انعزلوا في صوامعهم وأَديرتهم للعبادة، ولا يشاركون – لا بالمال ولا بالرأي- في إدارة الحرب.
تحريم قتل العبيد.
تحريم التمثيل بالقتلى.
تحريم إحراق الأشجار، وقتل الحيوانات، وإتلاف الممتلكات.
و هذه الآداب تضمنتها نصوص شرعية عديدة، منها:
قول عبد الرحمان بن عائذ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعث بَعثا قال: “تأَلَّفوا الناس، وتأَنَّوا بهم، ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل بيت من مدَر ولا وبر، إلا أن تأتوني بهم مسلمين، أحب إلي من أن تأتوني بأبنائهم وبناتهم وتقتلوا رجالهم”26.
وقول ابن عمر: “إن امرأة وُجِدَت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان”27.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا، ولا امرأة”28.
وقوله صلى الله عليه وسلم لرجل: “الحق خالدا فقال له: لا تقتل ذرية ولا عسيفا”29.
وقول أبي بكر الصديق (ض) ليزيد حين وجهه إلى الشام: “لا تقتل صبيا ولا امرأة ولا هرما”30.
وقول عائشة (ض): “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَمَّرَ أميرا على جيش أو سَرِية أوصاه في خاصته بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا ثم قال: “اغزوا على اسم الله في سبيل الله تعالى، قاتِلوا من كفر بالله، اغْزُوا ولا تُغْلُوا ولا تغدِِروا ولا تُمَثِّلُوا ولا تقتلوا وليدا… الحديث””31.
وقول ابن عباس (ض): كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: “لا تقتلوا أصحاب الصوامع”32.
وقول ابن عباس أيضا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشا قال: “اُُخرجوا باسم الله، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تغلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع”33.
وقول أبي بكر (ض) لأحد قواد جيوشه إلى الشام: “إنك ستجد قوما زعموا أنهم حَبَسوا أنفسهم لله، فدعهم وما حبسوا أنفسهم له… وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة ولا صبيا، ولا كبيرا، ولا هرِما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخرِبن عامرا، ولا تعقرن شاة، ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا، ولا تفرقنه، ولا تغلل ولا تجبن”34.
فهذه النصوص الشرعية واضحة الدلالة على أن الإسلام أحاط الجهاد المشروع بآداب عالية نفيسة، تجعل منه جهادا مقدسا ذا طبيعة خاصة، وأهداف تربوية نبيلة.
و الإرهابيون لا يحترمون أيّاً من هذه الآداب، ولا يتقيدون بأي ضابط، ولا يلتزمون بأي مبدإ، وإنما يخبطون في مواقفهم العدائية ضد أنفسهم وضد غيرهم خبطَ عشواء، فيقتلون أنفسهم ويقتلون غيرهم، ويهلكون الحرث والنسل، ويسعون في الأرض فسادا، والله لا يحب الفساد.
رابعا: الجهاد من اختصاص الإمام الأعظم
حرصا من الإسلام على استقامة الحياة البشرية وتوازنها، وانسجامها مع مقتضيات الخلافة المنوطة بالإنسان، وإيمانا منه بأهمية السلم، وضرورة انضواء الناس جميعا تحت لوائه، لم يكتف بإباحة الجهاد عند اضطرار المسلمين إليه، بل نظمه وأحاطه بضمانات تضمن نظافة وسائله، ونبل مقاصده، وسمو أهدافه.
ومن مظاهر هذا التنظيم أنه جعله من اختصاص الإمام الأعظم، حيث أعطاه وحده الحق في إعلانه والدعوة إليه وتنظيمه، ولم يبح لأي فرد ولا جماعة في الدولة الإسلامية أن تقتحمه من تلقاء نفسها، ولا أن تعلنه أو تنظمه أو تدعو إليه، لأنه لو فتح بابه على مصراعيه، للعبت به الأهواء، ولآل أمره إلى الفتنة والفوضى، ولانحرف عن هدفه المقدس، الذي هو إعلاء كلمة الله، إلى أهداف تافهة، لا تسمو سموه، ولا تناسب خطورته وقدسيته.
و قد ألح علماء الإسلام قديما وحديثا على إبراز هذا الاختصاص، صيانة لتماسك الأمة، وحماية لها من أن ينفرط عِقدها، فتتنازع وتفشل وتذهب ريحها.
* قال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: “ويعد الجهاد القتالي في مقدمة أحكام الإمامة، بل لا أعلم أي خلاف في أن سياسة الجهاد، إعلانا، وتسييرا، وإنهاء، ونظرا لذيوله وآثاره، كل ذلك داخل في أحكام الإمامة، وأنه لا يجوز لأي فرد من أفراد المسلمين، أن يستقل دون إذن الإمام ومشورته، في إبرام شيء من هذه الأمور”35.
وقال الدكتور محمد رأفت عثمان: “يلزم الشعب أن يطيع رئيس الدولة فيما يتخذه من قرارات تختص بأمر الحرب، لأن أمر الحرب من الأمور العظيمة التي يجب أن تعطى لأعلى مستوى في الحكم، ويجب على رئيس الدولة أن يفعل ما فيه مصلحة المسلمين”36.
والإرهابيون يتنكرون لهذا المبدإ ويتجاهلونه، ويعلنون الحرب ويقاتلون ويقتلون بدون إذن الإمام، وبدون استشارته، وفي ذلك تطاول على اختصاصات الإمام، ومخالفة للشريعة الإسلامية، وتناقض صارخ مع مبادئها وأحكامها.
ورئيس الجماعة أو العصابة الإرهابية، لا يقوم في هذا الشأن مقام الإمام الأعظم، ولا يكون بديلا عنه، لأن الإمام الذي يقاتِل المجاهدون وراءه، وينزِلون عند أمره ونهيه، هو الإمام الأعظم، الذي يسوس الدولة، ويدير شؤونها العامة.
وتسمية بعض الجماعات زعيمها بالأمير أو الإمام، لا يقدم في الأمر ولا يؤخر، بل إن رضاه بأن يسمى بالأمير خروج عن الجماعة، وشقٌّ لِعصا الطاعة، وتلك معصية كبيرة، إذا لم يتب منها ومات متلبسا بها، مات ميتة جاهلية.
خامسا: الإرهاب تواكبه معاص وفتن ومآس كثيرة
ومما يجعل الإرهاب بعيدا عن روح الإسلام ومثله وأحكامه، انطواؤه على فتن ومعاص كثيرة، يرتكبها الإرهابيون، وينغمسون في أوحالها، على الرغم من أن الإسلام حرمها تحريما باتا، وحذَّر المسلمين من شؤمها.
ومن تلك المعاصي:
إيقاظ الفتنة الملعون موقظها، والفتنةُ أشد وأكبر من القتل، لأنها تأتي على الأخضر واليابس، ويكتوي بنارها الخاص والعام “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة”37.
ترويع الناس، ونشر الفزع والهلع بينهم، “ومن روع مؤمنا لم يؤمن الله روعته يوم القيامة”38.
قتل النفوس التي حرم الله إلا بالحق، “ولا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث:…”39.
الانتحار عن طريق تفجير الإرهابي لنفسه، (ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم)40.
أخذ الإنسان بجريرة غيره، وذلك لا يجوز لقوله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى)41، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه”42.
هدم المباني، وإحراق وسائل النقل، وإتلاف السلع والممتلكات، وذلك لا يجوز حسب ما ذهب إليه الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الوصية التي وجهها إلى زيد بن أبي سفيان لما بعثه على جيش إلى الشام، ومنها: “لا تعقرن شجرا بدا ثمره، ولا تحرقن نخلا، ولا تقطعن كَرْما، ولا تذبحن بقرة ولا شاة ولا ما سوى ذلك من المواشي إلا لأكل”43، وحسب ما ذهب إليه الإمام الأوزاعي القائل: “لا يحل للمسلمين أن يفعلوا شيئا مما يرجع إلى التخريب في دار الحرب، لأن ذلك فساد، والله لا يحب الفساد”44.
ترميل النساء وتيتيم الأطفال، وذلك أمر فظيع، وعمل شنيع، تترتب عليه مآس إنسانية بالغة الخطورة.
تشويه الإسلام، وتصويره للناس على أنه دين الكراهية والحقد والانتقام، وسفك الدماء، ومن ثم تنفير الناس منه، وتزهيدهم في اعتناقه.
سادسا: تناقض الإرهاب مع هدف كبير من أهداف الإسلام
من أهداف الإسلام الكبرى، تقوية أواصر الأخوة والمحبة بين الناس، ونشر السلم والتعارف والتعاون والتعايش بينهم.
والإرهاب يسير في عكس اتجاه الإسلام، فيزرع الأحقاد، ويغذي التفرقة البغيضة، وينمي العنصرية المقيتة، ويزج بالناس في أتون الفتنة والخوف والاحتراس وسوء الظن.
الخلاصة
لا علاقة بين الإرهاب والجهاد في سبيل الله.
لا علاقة بين الإرهاب والإسلام، إلا من حيث إن الإسلام يحرم الإرهاب، ويعاقب الإرهابيين (حد الحرابة).
الإرهاب ظاهرة عالمية، لا علاقة له بدين أو جنس أو لون أو لغة، وهو وليد انفعالات غامضة غريبة أفرزها في الغالب الفقر والظلم المتفشيان في العالم، وهو من ثم رد فعل عنيف ضد الحرمان والتهميش والاستغلال.
علاجه الحاسم يتطلب – من جملة ما يتطلب:
العناية بالطبقات المحرومة، ورفع الظلم عن الطبقات المظلومة، وإشعار الناس كل الناس بكرامتهم، وتمكينهم من حقوقهم، لأن ذلك أدعى لتجفيف منابع الحقد والكراهية، وأدعى لنشر الأخوة والمحبة بين الناس.
تحصين الشباب ضد التيارات الغريبة، والتصورات المنحرفة، وتكوينه تكوينا سليما متوازنا، وإعطاؤه مناعة ذاتية.
إصلاح التعليم ليكون قادرا على تكوين أجيال صالحة مؤهلة لتحمل المسؤولية، وحفظ الأمانة، وخدمة الصالح العام.
إصلاح الإعلام وتنظيفه ليكون هادفا وقادرا على السير بالناس عامة، وبالشباب خاصة في طريق البناء والتشييد.
التزام العدالة والمساواة في تدبير الشأن العام، ليشعر الجميع بأن لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات.
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن مواقف صاحبها ولا تلزم موقع برلمان.كوم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.