( تمت المشاركة بهذه المداخلة في اليوم العالمي للمرأة الذي نظمه المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بشراكة مع صندوق الأممالمتحدة الإنمائي للمرأة يوم الثلاثاء 31 مارس 2009 بقاعة دار الطالبة بأزيلال بدعوة من المنسقية المحلية لجبر الضرر الجماعي بإقليم أزيلال. والمداخلة بعنوان: إرادة الحياة. فيما يلي جانب من هذه المداخلة.) العتبة الأولى: تتكون مضمومة "نساء كسرن جدار الصمتط من مقدمة، وخمس مرويات/شهادات لنساء ما يسمى بسنوات الرصاص. وقد أطلق هذا المصطلح على الفترة الممتدة من منتصف الستينات من القرن الماضي حتى نهايته، حيث شهدت تلك الفترة التاريخية اعتقالات قسرية وبدون محاكمات ضد معارضي النظام المغربين وفي العهد الجديد تم تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة من أجل جبر الضرر... العتبة الثانية: تضم أضمومة المرويات خمس شهادات انساء من مختلف مناطق المغرب، ومختلف الأعمار، والوضعيات الاجتماعية، إلا أن القاسم المشترك بينهن هو انحدارهن من مناطق مهمشة ومعزولة، وأسر فقيرة، ولم تسمح لهن ظروفهن بالتمدرس، كما أن أغلب الشهادات التي تم تسجيلها تقدم لنا صورة مأساوية عما عانته هؤلاء النساء في عهد مغرب ما يسمى بسنوات الرصاص. ورغم الاختلاف الذي يمكن أن نلاحظه في بعض التفاصيل، إلا أن المأساة تكاد تكون متشابهة. فظروف الاعتقال، وأسلوبه، ونتائجه متقاربة، ومع ذلك، فلكا واحدة ممن أدلين بشهادتهن حكايتها الخاصة. وسأحاول في هذا العرض الموجز أن أقدم قراءة في هذه المرويات معيدا ترتيب بناء الأحداث بطريقة تسمح برؤية واضحة لحجم مأساة هؤلاء النساء اللواتي لم يرحمهن صغر سنهن، أو كبرهن، فقرهن/ أميتهن، في تجنيبهن ما تعرضن له من معاملة لا إنسانية، بل كانت عوامل ساعدت المخزن وقتئذ على ممارسة أبشع أنواع الاضطهاد والإذلال عليهن وعلى أبنائهن. قراءة في المرويات: شهادة حفيظة: تبدأ حكاية حفيظة سنة 1984، وهي السنة التي اعتقل فيها زوجها خلال الاضرابات التي عرفتها المنطقة. وتنحدر حفيظة من منطقة الناضور، تربت داخل أسرة محافظة، وعندما بلغت سن الزواج، زوجها الأهل إلى ابن خالها، وأنجبت منه ثلاثة أطفال. ومعاناة حفيظة لها طابعها الخاص، فقد وجدت على فجأة نفسها تعيش مأساة شارك في نسجها عدة أطراف: 1 الدولة: حين اعتقل الزوج، أصبحت بلا معيل، ولأنها تجهل أسباب الاعتقال وخلفياته، توارت على الأنظار حماية لنفسها وأطفالها، في انتظار ما ستؤول إليه الأمور، ولكن سرعان ما سيتم القبض عايها، واحتجازها، وتعريضها للتعذيب واإهانة والترهيب لنزع معلومات لا تعرفها عن النشاط السياسي للزوج، وكانت النتائج: * فرض إقامة جبرية عليها وعلى أبنائها، ومنعها من الاتصال بأي كان، بما فيهم الأقارب والجيران.. * توقيف راتب الزوج مما اضطرها إلى الخروج للعمل، رغم أنها غير مؤهلة بحكم تربيتها وثقافتها.. * الإحساس الدائم والمستمر بالعجز والظلم والخوف * انقطاع الأبناء عن الدراسة ليساهموا في مدخول البيت ببيع المياه والأكياس البلاستيكية في الأسواق.. 2 الجيران والأقارب : تغيرت علاقتهم بها، فهي وأبناؤها في نظرهم مجرمين، فتجنبوهم، ودفعوهم قسرا إلى عيش حياة يفتقدون فيها دفء العلاقت الاجتماعية، وعانوا من عزلة قاسية. 3 الزوج: رغم حجم التضحيات التي قدمتها حفيظة طيلة اعتقال الزوج، وتحمل مشاق زيارته عربون تضامن الأسرة معه، ورغم قلة ذات اليد، إلا أنه، وفي نهاية المطاف، وجزاء لما قدمته حفيظة من تضحيات، ستتعرض للخيانة من قبل الزوج، فلم يكد يحصل على التعويضات حتى بدأ حياة جديدة، فوجدت حليمة نفسها مرة أخرى في الشارع، طالبت بحقها قضائيا، فخرجت سفر اليدين. ومما عمق جرح المأساة، لدى حفيظة، عدم إنصافها من قبل الدولة، التي قدمت تعويضات للزوج، في حين أنها لم تحصل على أي تعويض، وهي التي حرمت من أن تعيش حياة كريمة، وهي التي منع أبناؤها من إتمام دراستهم، وكان مصيرهم التشرد، وهي التي تعيش اليوم في ضيافة والدتها تقاسمها غرفتها الوحيدة. وتختم حفيظة شهادتعا برغبة يتيمة، وهي بيت يسترها لتحس أنها تعيش فعلا داخل وطنها. شهادة إزة: تنحذر إزة ذات الستين سنة من منطقة الخميسات، من أسرة فقيرة، لم تتمدرس، وتزوجت في سن ستة عشر سنة من ملازم برتبة صغيرة في الجيش، أنجبت منه أربعة أطفال. تبدأ حكايتها عقب أحداث "هرمومو" سنة 1971، حيث تم اعتقال الزوج من داخل البيت، والحكم عليه باثنثين وعشرين سنة، لتبدأ فصول المأساة والمتمثلة في استفزاز "إيزة" وترويعها بإخضاع البيت للمراقبة المستمرة، والاقتحام المفاجئ والدائم والذي كان من انعكاساته: * الترهيب النفسي للأطفال، مما أثر سلبا على تنشئتهم الاجتماعية. * عزل الأسرة عن محيطها الاجتماعي، فالجيران يتجنبونهم، ولا يتعاملون معهمز * الآضطرار إلى أكل الخبز المغمس في الماء. * التعرض للإستجوابات والإستنطاقات وما يترتب على ذلك من إذلال، وإهانات، والحط من الكرامة اإنسانية. * معاملة الأطفال كمجرمين من قبل أجهزة الدولة. * عندما تم الإفراج على الزوج، فقد تعمقت المأساة لأن الأب الواهن العاجز غير قادر على التعرف على الأبناء، ويعيش كغريب بينهم. * وزاد من حجم المعاناة والإحساس بالظلم عندما ستفاجأ الزوجة بأن الشخص الذي عانت من إجله، وتنتظر أن يكافئها عن تضحياتها سيطعنها من الخلف ليعمق جرحها المفتوح، فيتزوج، ليهينها. و"إزة" تعيش اليوم وحيدة، متعبة بعد زواج أبنائها التي كافحت لتعلمهم وتنشئهم تنشئة صالحة، لكن للأسف لم تجن منهم غير العقوق والظلم. شهادة خديجة: تنحدر خديجة من مدينة قلعة السراغنة من أسرة فقيرة تعيش على الرعي، لم تتمدرس، ووالدها عضو في جيش التحرير، فقدته وهي طفلة، ورغم صعوبة العيش، فقد كانت حياة الأسرة تعيش نوعا من الاستقرار. وتبدأ حكايتها المأساوية لحظة اعتقال والدتها، حيث ستعرف كل ألوان التنكيل والمعاناة، فقد احتجزت طيلة شهر كامل. حصل ذلك في نهاية السبعينات، وتم اعتقالها مرتين: سنة 1973: أحداث بوعزة كلميمة/ ومن أشكال المعاناة التي تعرضت لها إزة وأسرتها: * الضرب والتنكيل من قبل الجنود عندما حضروا لاعتقالها رفقة إخوتها. * النوم داخل الزنزانة على الأرضية الباردة. * الحرمان من الماء والطعام. * العمل في ممتلكات المخزن. * المبيت في زنازن مليئة بالحشرات. * التعرض للإغتصاب الجماعي من قبل الحراس. * استئصال الرحم/ الذي يعني قتل كل أمل في الأمومة. "إزة" اليوم غير قادرة على المطالبة بحقوقها، نتيجة الجهل والأمية، كما أن الناس حذروها إن هي فعلت..كما فقدت ثقتها في الدولة، والزوج الذي تخلى عنها واستبدلها بزوجة ثانية. شهادة "أم احليمة": "أم احليمة" نموذج الأم التي حول اعتقال ابنها رأسا على عقب، وخلق منها شخصية جديدة استطاعت رغم كل شيء الوقوف والصمود والتحدي..و"أم حليمة" المرأة التي تنحدر من قلعة السراغنة، من وسط اجتماعي متواضع، لم تدخل المدرسة قط، لكن وجدت نفسها في لحظة من حياتها تغادر عزلتها لتنخرط في حركة اجتماعية وسياسية تبدأ لحظة اكتشافها بأن ابنها الذي كان مدرسا قد تم اختطافه في ظروف كانت بالنسبة لها غامضة، وجاء رد فعلها الطبيعي هو البكاء والحزن وانتظار الكشف عن الحقيقة قبل أن تنظم إلى مجموعة من الأشخاص الذين تعرض ذويهم للإعتقال لتبدأ طريق نضال طويل وشاق. "أم احليمة" تخرج قسرا من عزلتها، لتعلمها الحياة ما كانت تجهله، فوجدت نفشها تقتحم مكتب القنصلية الأمريكية، منظمات حقوق الانسان، الصحف، مكتب الوزارات، كما سينالها قسط من التعذيب، والتعنيف، والاعتقال، والإذلال، عندما ستحجز ليلة كاملة من إجل الإستنطاق. كل هذا لم يضعف من عزيمة "أم حليمة"، بل زاد إصرارها على النضال، وشاطرت الإبن طموحاته، ومواقفه السياسية، وقررت أن تتحمل مسؤولياتها، فوقفت إلى جانبه، لتآزره في محنته. وبعد نضال مرير وطويل، تمكنت الأم من زيارة ابنها ثلاث مرات في الأسبوع، وهي زيارات منحتها الدعم النفسي والأمل، وأعطت لحياتها معنى وهدفا، بل أصبحت فخورة بابنها. لقد أدركت "أم حليمة" أن تضحية الابن بنفسه كان بالنسبة إليها واجبا وطنيا من أجل الكرامة والحرية، إلا أنه سرعان ما انتابها الفزع بعد اعتقال ابنها الثاني الذي تعرض للتعذيب..لكنه ظلت شامخة في مواقفها ومبادئها، وناضلت إلى أن تم الإفراج عن ابنها، لكن سرعان ما انطفأ الأمل بعد أن أحضر لها ابنها المفرج عنه جثة هامدة في ثابوت.. رغم صلابة "أم حليمة" إلا إن حظور ابنها في ذاكرتها لا يزال قويا، وتجد صعوبة في النوم، تلاحقها الكوابيس، بل يتهيأ لها أنها ترى ابنها يخرج من المقبرة.. السلوى الوحيدة التي خففت من معاناة "أم حليمة" هي جلسات الإستماع العمومية، وإدراكها بأن تضحيات ابنها لم تكن مجانية، فهي أفق للأجيال التي تتمنى أن لايعانوا ما عاناه ابنها. شهادة "تودة": "تودة" نموذج للطفلة التي لم تتجاوز الثلاث سنوات، والتي وجدت نفسها ضحية سنوات الرصاص. تبدأ كوابيس الطفلة سنة 1973 وهي السنة التي تم فيها اعتقال الأب، وحين تسرد الطفلة حكايتها، فإنها تستعير لسان والدتها بالأساس. ومن نتائج التعذيب والعنف الذين مورسا عليها: * الحرمان من الطعام والماء النظيف, * النوم على الأرض دون غطاء أو فراش. * إجبارها رفقة أسرتها البقاء عراة داخل السجن. * تعريضهم للبرد والثلج. * التعذيب بالصعق الكهربائي. * الخنق بالخرق المبللة في مياه مالحة إلى درجة الاختناق. * تذكرها لأخيها الرضيع وهو يرضع من ثدي أمه دما بدل الحليب بعد تجويع الأم. وبعد الإفراج عنها، كان عليها أن تواجه مصاعب نفسية، واجتماعية وهي الطفلة التي لا تزال في حاجة إلى الرعاية..وهكذا كان عليها أن تواجه أشكال عديدة من القهر والظلم منها: * الحرمان من حنان ودفء الأسرة. * الإقامة الجبرية مع اثنين من إخوتها * التعرض لاستفزاز الجنود الين يتعمدون إخافتهم وتجويعهم. * الحرمان من رؤية الأب عندما تم القبض عليه، وعندما توفي. * الحرمان من حق المواطنة * الحرمان من التمدرس، والاستفادة من الخدمات العامة، وحق المشاركة في الانتخابات. وتختم "تودة" شهادتها باتهام الدولة بالتقصير في حقها، وحق أسرتها، وأنها لا تستحق كل ما وقع لها، ومع أن الحكي عن الألم بإمكانه أن يخفف المعاناة، إلا أن تودة لا تستطيع أن تنسى. لقد رسمت أضمومة "المرويات" لوحات صور بشعة لأطفال ونساء تمت معاملتهن بطريقة غير إنسانية، ونفذت في حقهن "عدالة" ظالمة، نساء مجروحات يحاولن كما فعلن دائما في صمت أن يجمعن شتات أجسادهن التي عبتث بها أيادي قدرة، آثمة، لأناس مجرميين، وقطاع طرق، وكان المؤمل فيهم أن يكونوا ملجأ كل مظلوم، وحماة كل مرعوب. كلمة أخيرة: يحدث أن يتنكر لنا هذا الوطن الجميل/ يحدث أن يتحول إلى وحش كاسر ينشب أظفاره في أجسادنا الغضة، ويكسر عظامنا الهشة. يحدث أن تتوارى خيوط أشعة هذا الوطن الجميل وراء عاصفة قاتمة، فتدمر الشجر والحجر..ولكن قد يصير الوحش الكاسر حمامة نحضن أفراخها تحت أجنحتها فتمنحها الدفء والأمان. وتصبر العاصفة المرعبة منبع ماء سخي يهب الحياة، ويلةن الأرض بكل ألوان الخصب، والسماء بكل ألوان الطيف، فننعم بالحب والأمن والأمان..