لا شك أن المهتمين والمتتبعين للديبلوماسية المغربية يدركون الدور الحيوي والمتميز لملك المغرب في هذا المجال، سواء من حيث المنهجية المتبعة أو من حيث الأهداف المتوخاة من هذه الديبلوماسية الملكية. ففي العلاقات الثنائية، يمارس الملك محمد السادس، باعتباره الممثل الأسمى للدولة المغربية، ما يمكن تسميته بديبلوماسية المصالح حين يتعلق الأمر بالقضايا الوطنية. وبنفس الصفة الدستورية، يحرصرئيس الدولة المغربية على التمسكبالمواقف الصارمة في القضايا القومية العادلة. وبمعنى آخر، فديبلوماسية المصالح لا تنسي ملك المغرب في ديبلوماسية المواقف؛ بل تجعله يعمل على التوفيق بينهماحتى لا يتم الإضرار لابالمصالح الوطنية ولا بالقضايا القومية. وما يميز هذه الدبلوماسية بشقيها، هو اعتمادها،في العلاقات الثنائية، على مبدئين متكاملين: مبدأ "رابح – رابح " (gagnant-gagnant)ومبدأ الاستقلالية في القرار. وكمثال على هذه الاستقلالية بالنسبة لبلادنا، نُذكِّربموقف المغرب من الأزمة الخليجية؛ فقد رفض الانضمام الى حلف حصار قطر الذي قادته المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة منذ يونيو 2017. ورغم ما للمغرب من مصالح مشتركة مع البلدين، فإن ذلك لم يؤثر على قراره المستقل. وقد اجتهد المغرب في الحفاظ علىالعلاقات الثنائية بين الرباط والعواصم الخليجية. وتأبى الأيام إلا أن تثبت صواب موقف الملك محمد السادس وسداد رأيه. فالتطورات الأخيرة في المنطقة تؤكد ذلك: لقد عادت المياه إلى مجاريها بين دول مجلس التعاون الخليجي. ومن منطلق مبدأ "رابح – رابح "،فإن الملك، حين يفاوض أو يرافع على مصالح المغرب، إما بصفة شخصية أو بواسطة مبعوثيه، فهو يستحضر أيضا وبالضرورة مصالح الطرف الآخر؛أي أن التفاوض تراعىفيه المصالح المشتركة بين الطرفين. وبمعنى آخر،فإن التفاوض أخذ وعطاء، وليس أخذا فقط أو عطاء فقط. وهذا ما جعل محمد السادس يحظى بالمصداقية والثقة لدى محاوريه؛ وبفضل هذه الثقة وهذه المصداقية، احتلت الديبلوماسية المغربية مكانة متميزة سواءلدى القادة الأفارقة أو لدى قادة الدول الكبرى. وإذا نظرنا إلىما عرفته قضيتنا الوطنية الأولى (قضية الوحدة الترابية) من تطورات إيجابية خلال السنة الماضية، ندرك أن ذلك من ثمارديبلوماسية المصالح التي نهجها المغرب في علاقاته الثنائية. وتتمثل هذه التطورات في افتتاح عدة قنصليات (عشرون قنصليةلحد الآن) بمدينتي العيون والداخلة التين أصبحتا تتوفران علىحي ديبلوماسي لكل منهما. وما كان لهذه الانتصارات أن تتحقق لولا البرغماتية السياسية والواقعية المتبصرة التي تنهجها الديبلوماسية الملكية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نورد، من جهة، المفاوضات مع نيجيريا، التي نجحت في "تكسير محور الجزائر- نيجيريا- جنوب إفريقيا" (انظر عمود "كسر الخاطر"لعبد الحميد جماهري، "الاتحاد الاشتراكي"، يوم 3 فبراير 2021)؛ ومن جهة أخرى، المفاوضات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي برزت فيها بشكل جلي نتائج الواقعية والبراغماتية. فأن يحصلالملك محمد السادس على الاعتراف بمغربية الصحراء من طرف الدولة الحاملة للقلم في قرارات مجلس الأمن، والمتربعة على مركز الصدارة كقوة اقتصادية وعسكرية عظمى في العالم، فذلك انتصار ديبلوماسي بالغ الأهمية؛ وهو مكسب كبير وسند قوي لمقترح الحكم الذاتي الذي اعتبره مجلس الأمن جديا وواقعيا وقابلا للتطبيق. والنجاحات الديبلوماسية لا تأتي بالصدفة؛ فقد توفرت للمغرب عدة عوامل للنجاح في ديبلوماسية المصالح التي ينهجها حفاظا على مصالحه العليا، وفي مقدمتهاوحدته الوطنية والترابية؛ ومن بين هذه العوامل، تأتي على رأسهاالديبلوماسية الملكية المتفتحة والمتبصرة، والاستقرار السياسي والمؤسساتي الذي تنعم به البلاد، ثم الموقع الجغرافي الاستراتيجي الذيحبابه الله بلدنا الواقع على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي؛ وهو موقعيتميز بالقرب من أوروبا والشرق الأوسط، ومفتوح على أفريقيا والأمريكيتين.وكون المغربيقع في شمال إفريقيا، فهو يشكل منفذا بريا على غربها ومنه إلى وسطها وجنوبها؛ دون إغفال عوامل مساعدة أخرى، كالاختيارالديمقراطيالذي أصبح ثابتا من ثوابت البلاد، والتعددية السياسية، والتنوع الإثني والثقافي والمجالي وغيرها من العوامل التي تتكامل مع بعضها لتجعل من المغرب بلدا يحظى بالاهتمام. ومن نافل القول التأكيد على أن الموقع الاستراتيجي للمغرب يجعلهمحط اهتمام الدول الكبرى (ٍأوروبا والصين وروسيا وأمريكا) المتنافسة على السوق الإفريقي الواعد، من جهة؛ ومن جهة أخرى،يجعله محط اهتمام الدول الأفريقية التي ترى فيه بوابة لجلب الاستثمارات الأجنبية إليها. وإذا كان الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء قد تزامن مع الإعلان عن إعادة فتح مكاتب الاتصال بين الرباط وتل أبيب، فإن الأمر لا يعسر على الفهم إلا بالنسبة لمن لا يريد أن يفهم، أو بالنسبة لمن تقوده عاطفته بدل عقله، أو بالنسبة لمن يجهل طبيعة العلاقات بين أمريكا وإسرائيل، أو بالنسبة لمن يُغيِّب مبدأ"رابح – رابح " في العلاقات والمفاوضات الثنائية، أو غير ذلك من العوامل التي تحجب الرؤية وتُضبِّب المشهد وتعيق الفهم الصحيح للوضع. لكن، رغم كل هذا،فالموقف الرسميمن القضية الفلسطينية، كما عبر عنه بلاغ الديوان الملكي،ظل ثابتا. فالمغرب لم يفاوض على حساب القضية الفلسطينية،ولم يتنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني،بل ظل متشبثا بمواقفه الثابتةتجاه القضية، ولم يطرأأي تغيير على موقفهالمساند لحل الدولتين والمتشبثبالوضع الخاص للقدس. ولم يكتف الملك محمد السادس ببلاغ الديوان الملكي حول هذا الموضوع، بل اتصلهاتفيا بالأطراف المعنية، بمن فيهم القيادة الفلسطينية،لإبلاغهم بهذا الموقف الثابت. صحيح أن تزامن اعتراف الولاياتالمتحدةالأمريكية بمغربية الصحراء وإعادة مد الجسور بين المغرب وإسرائيل،قد شوش على الفرحة العارمة التي غمرت النفوس بعد الإعلان عن هذا الاعتراف الأمريكي. وصحيح أيضا أن أعداء الوحدة الترابية استغلوا هذا التزامن لترويج الإشاعات والأباطيل والأضاليل من خلال حملة إعلامية واسعة تقوم على الافتراء وتزييف الحقائق والوقائع. وإذا كان موقف النظام الجزائري وأبواقه مفهومالكوننا نعرف العداء الذي يكنه لبلادنا لأسباب وأهداف غير مجهولة، فإن انخراط بعض الوجوه الفلسطينية المعروفة مثل الدكتورةحنان عشراوي والإعلامي عبد الباري عطوان،في هذه الحملة التضليلية أمر يدعو إلى الدهشة والاستغراب. فالدكتورة حنان عشراوي، يبدو أنها قد تحولت إلى بوق في خدمة أجندة جنرالات جارتنا الشرقية المتحكمين في رقاب الشعب الجزائري الشقيق وفي خيرات بلاده. وقد وصلت الوقاحة بمهندسة اتفاقية أسلو والعضو البارزفي الوفد الفلسطيني المفاوض لإسرائيل(وقد ترأسته أكثر من مرة؛وبهذه الصفة صافحت سفاحي الشعب الفلسطيني) إلى أن تعتبر المغرب دولة احتلال كإسرائيل، حسب ما جاء في مقال للأخ حيمري البشير المقيم في الدنمارك ("حنان عشراوي والإساءة للشعب المغربي"، جريدة "الاتحاد الاشتراكي" بتاريخ 22 دجنبر 2020). وحسبحيمري البشير- الذي جعل من مقاله، بعد مقدمة تطلبها المقام، خطابا مباشرا موجها لحنان عشراوي – فإن هذه الأخيرة مسؤولة عن فشل المفاوضات؛ ومن بين ما جاء في هذا الخطاب المباشر قوله: "السيدة حنان، أنت تتحملين مسؤولية الفشل الذي آلت إليه اتفاقية أسلو". أما الإعلامي الفلسطيني البريطاني، عبد الباري عطوان – الذي لقبه أحد الصحافيين المغاربة، في زمن بلادن (وقد قضى معه مدة من الزمنفي مخابئه بجبال أفغانستان)، ب"الجنرال" – فلم ينس بلادنا من نصيبها في الزعيق الذي يبثهمن لندن. وهو من بين الذين راهنوا على تراجع الرئيس الجديد للولايات المتحدة عن قرار سلفه (أتصور صدمته بعد أن خاب أمله). وطنيا، تباينت المواقف منالقضيتين الوطنية والفلسطينيةبين النظرة التجزيئية والنظرة الشمولية. ولا أدخل في الاعتبار، هنا، من سماهم عبد الحميد جماهري "المؤرخون الجدد للعبث" الذين جعلوا من استئناف العلاقات مع إسرائيل ذريعة لتصفية حساباتهم السياسيةمع الدولة. فالنظرة التجزيئية تتحكم فيها العاطفة؛ لذلك، يغلب عليها رد الفعل، وتصدر عنها مواقف متباينة ومتضاربة. وقد يتسم بعض هذه المواقفبالتطرف المصحوب بالعنفاللفظي. وبصفة عامة، فهي لا تخرج عن ثنائية "مع" أو "ضد". وهذا ما جعل بعض المغاربة ذوو النزعة القومية ينساقون مع الخطاب الذي يتحدث عن الخيانة والتطبيع وغيره، متناسين المصلحة الوطنية. بالمقابل، هناك من المغاربة من لا يفهمون ولا يتفهمون الموقف القومي للدولة وللأحزاب الوطنية، فيتخذون، باسم المصلحة الوطنية، موقفا معاكسا ومناهضا للموقف المساند للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية قومية (في المغرب، تعتبر قضية وطنية أيضا). خلاصة القول، الديبلوماسية الملكية تحرص على التوفيق بين المصالح الوطنية والمصالح القومية. وتأتي على رأس المصالح الوطنية قضية وحدتنا الترابية، وعلى رأس المصالح القومية، قضيةالشعب الفلسطيني التواق إلى بناء دولته الوطنية. ودفاع الملك محمد السادس عن القدس وعن حل الدولتين، هو دفاع عن الشعب الفلسطيني وعن أرضه، ومساندة له في نضاله التحرري. ولإدراك هذا التوفيق بين القضيتين، يتعين التخلص من النظرة التجزيئية والاعتماد على مقاربة الأشياءبنظرة شمولية حتى لا نسقط في ثنائية "مع" أو "ضد". مكناس في 7 فبراير 2021