أكد مرور ثمان سنوات على ركود ورقود ملف استشهاد كمال عماري رحمه الله برفوف محكمة بآسفي، أن السلطات المغربية لا نية لها في القطع مع ممارسات الماضي الأليم وجريمة إفلات المجرمين من العقاب، حتى لو لم تك بعض أحداثه بالقديمة كما كان سنة 2011. أقدمت خلالها السلطات على إعطاء أوامر وتعليمات لا قانونية بتعذيب نشطاء الحراك العشريني بمدينة آسفي، بتجاوزات يجرمها القانون الجنائي المغربي والمواثيق الدولية والدستور الذي منع ويمنع المس بالسلامة الجسدية والتعذيب والاختفاء القسري والمعاملات القاسية خاصة في حالات النشاط والاعتقال السياسي، والذي أدى العنف المفرط والاجتهاد الزائد فيها عن اللزوم إلى قتل أحد المتظاهرين السلميين، وهو الشهيد كمال عماري رحمه الله، وهو مضمون قصتنا الإنسانية هذه. مدة طويلة “8 سنين ما بين 2011 و 2019” كانت كفيلة لو كانت هناك فعلا إرادة سياسية صادقة لدى التوجه الرسمي، وتوافقت مع ما يرفعه من شعارات ويزعمه من مزاعم أمام الرأي الداخلي والخارجي. كانت لتكون كافية لإكمال تحقيق فُتِح ثم علق، وتقرير طبي رسمي أنجز ولم يخرج، وتقارير رسمية وحقوقية كلها مجمعة، ومحاكمة أعدمت جلساتها. 1 – من هو كمال عماري..وكيف تم قتله؟ هو شاب مغربي خرج في مسيرات انطلقت بتاريخ 20 فبراير 2011 بالمغرب، كان كبقية شباب المغرب تواقا إلى غد جديد ومرحلة تقطع مع سنوات الرصاص وتبدأ ديمقراطية حقيقية وتنمية وشغلا للعاطلين ومستشفى للمرضى بالمستوى ومدرسة للفقراء واليتامى والمعوزين وجامعات عالية التدريس والتكوين، وخدمات وسياسات عمومية ناجعة وكل ما يطمح له جيل فتح عينيه على العهد الجديد. كان واحدا من شبيبة العدل والإحسان ورجالات رباطاتها. يوم 29 ماي 2011، وهو اليوم الأسود الذي مورست وارتكبت فيه فظائع، كان منها اختطاف وتعذيب سبعة نشطاء آخرين بنفس المدينة أي آسفي، وتزامنا مع ذلك وأثناء نفس المجزرة التي ارتكبت بالخلاء، كان سبعة أمنيين ينهالون ضربا وسلخا على كمال عماري أمام أعين المارة. طوقه عناصر “الصقور” ومن معهم في إحدى الأزقة الضيقة بمدينة أسفي بدار بوعودة، جنوبالرباط العاصمة، وسط المغرب، ولم تتركه إلا وهو غارق في دمائه وعاهاته حيث كسرت ضلوعه وصدره وضربة قاتلة برأسه أردته بعد أيام. لم يتوجه للمستشفى ككل النشطاء الذين أصيبوا يومها فقد كانت عناصر الأمن ترابط أمام بابه، ومراقبته أمنيا والتربص بالنشطاء واعتقالهم. وظل يئن المسكين في بيته لم يسعفه الوقت لتجاوز حالته الخطيرة، فكان كما يحكي أبوه، ينعي لحظاته الأخيرة لأسرته. خلفت جريمة التعذيب هذه إصابات خطيرة على مستوى الرأس والصدر وكسرا في الرجل اليمنى وكدمات على مستوى الوجه ورضوضا كذلك في جميع أنحاء الجسم تطورت كثيرا مع المدة لينقل على وجه السرعة للمستعجلات لحالته المتفاقمة، وبعد إجراء العديد من الفحوصات واليأس من حالته.. وبعد أخذ ورد لتكون النتيجة النهائية لهذا القمع الوحشي الشرس استشهاده يوم الخميس 02 يونيو 2011 بنفس المكان الذي نقل له، بمستشفى محمد الخامس بأسفي. كنت يومها حاضرا وقد عاينت لحظاته الأخيرة ونعيته للعالم وحكيت قصته في فيديو تناقلته العديد من القنوات الدولية والعربية. ولازلت إلى حدود هذه السطور أحد الذين اختطفوا وعذبوا يومها ببشاعة، وواحد ممن رأوا بأعينهم وذاقوا القمع الذي مورس يومها بوحشية من 92 ماي سنة 2011. أجمع الائتلاف الحقوقي على الجريمة، وتم إنجاز عدد من التقارير الرسمية والغير الرسمية، بالإضافة لتقرير دولي لمنظمة أفدي أنترناسيونال ببروكسيل، أكدوا كلهم من خلال الاستماع للضحايا والشهود والوقائع والسلطات على تورط الدولة في الجريمة، وطالبوا بإعمال مسطرة المتابعة كاملة. المقرر الدولي خوان مانديز، مقرر الأممالمتحدة لمناهضة التعذيب والمعاملة اللاإنسانية والمهينة والحاطة من الكرامة، زار مساء أربعاء من شهر شتنبر 2012 المغرب، واستمع لأسرة كمال عماري حسب مقال نشرته جريدة الصباح بتاريخ 21 شتنبر 2012. وبتاريخ 10 يونيو 2014 أعرب الوسيط للديمقراطية وحقوق الإنسان عن قلقه من البطء والتأخير وطالب السلطة القضائية بتحمل مسؤوليتها كاملة في تسريع وتيرة البحث والكشف عن النتائج وتمكين العدالة من أن تأخذ مجراها، وتقديم المسؤولين عن الجريمة للمتابعة القضائية من خلال مراسلته بهذا الخصوص لكل من الوزير الأول ووزير الداخلية والعدل والمجلس الوطني لحقوق الإنسان بتاريخ 13 أكتوبر 2011. لكن لاشيء لحد الآن. 2 – تعذيب كمال ونشطاء: كنت ممن اختطفوا وعذبوا حتى رأوا الموت بين أعينهم وسرقت أمتعتهم وهددوا بالاغتصاب وتعرضوا لكل أنواع السباب والإهانة والعجرفة وألوان المهانة. تحديدت يوم الأحد الأسود 29 ماي 2011 في إحدى خرجات الحراك المغربي، بدأت القصة حين كنا نهم بتنظيم وقفة سلمية ككل خرجات شباب الحراك العشريني بربوع بلدنا الحبيب، فتم اختطافنا من بين المتظاهرين وحملنا في سيارة صغيرة “أونو” التي لازلت أتذكرها إلى اليوم، ثم نقلنا بعدها إلى سيارة أكبر بيضاء حيث وجدنا صناديق حجارة السكة الحديد، ولربما كان القوم يعدون لسيناريو إلصاق تهمة العنف بشباب مسالم لا يملك إلا حنجرته وبضع تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي وصرخات مثل بقية ربوع العالم العربي آنذاك. تلقينا الكثير خلال تلك الرحلة والمدة، وكلما صعد أحدهم إلا وصب جام غضبه وسبابه وأرجله فوق أجسادنا الضعيفة الضئيلة وكان بعضهم يجتهد ويستعرض ويعري عن “إنسانيته” جدا ويرينا صورة الأمني المغربي الوطني الذي لا يجد شجاعته إلا في أجساد إخوته لا في مواجهة عدوه أو تفشي المجرمين والمخدرين وما نرى ونسمع كل يوم. الخلاصة تم تعذيبنا بوحشية وبدون رحمة أو شفقة في مكان بعيدا عن الأعين، وكانت كاميرا مراقب مسيرات الحراك شغالة! . تركوني بآخر اللائحة بأوامر وتشاور بين القوم، وكل يختار على هواه من يعذب الأول. كانت العناصر المكلفة بالتعذيب تحمل في أياديها هروات من النوع الغليض، لتتهاوى بشكل خطير وجسيم وبدون شفقة على كل أجزاء الجسم دون كلل أو ملل، وهو ما يسميه القانونيون تحقق القصد الجرمي الجنائي، وثبوت الإصرار والترصد الذي رافق النشطاء أينما حلوا وبالتالي اكتمال عناصر الجريمة كاملة..”.انزلو فلان”، فجاء دوري فوضعت يدي على رأسي ووجهي لكي لا أرى المنظر، فقال أحدهم: (هذا عارف أشنو كين “بالنسق الفصيح: يعرف جيدا ما يفعل حين سيعذب…) ثم استسلمت وسط دائرة “التعذيب”، وأحاطوا بي من كل الجنبات ليتفننوا في ممارسة ما تدربوا عليه في أقبية المديرية العامة للأمن الوطني التي تحكي عن خدمة المواطنين وحمايتهم ! وقد رأينا كيف تحولت عناصرها إلى أدوات تعذيب جسيمة تتجاوز القانون دون عقل ودون وازع ولا رادع. وانهالوا علي بكل ما آوتوا من قوة ومن حكرة وظلم، وتهاوت الضربات والقوم كأنهم وجدوا متنفسا لمكبوتات بداخلهم، ويعشقون ما يفعلون دون حسيب أو رقيب. وكان مما قيل يومها “بالسطافيط” أمامي بنبرة كلها عجرفة وفرعونية: “20 سنة في السجن والقرعة نوريك “مك “المطالب أشناهيا” زيادة على الكلام الفاحش الذي عافت نفسي أن أدنس به سماع القراء الكرام، ولم نعرف الوجهة بعد. كان كل من صعد إلى متن “الناقلة” استعرض علينا أرجله وأيديه ولسانه، وكان لصاحب السطور الحظ الأوفر من التعذيب باعتباري من النشطاء البارزين يومها. ثم بدأت عملية الإنزال في مناطق مجهولة في الخلاء بعيدا عن مدينة أسفي. عرفنا بعدها أن الأمر يتعلق بنواحي الوليدية على الطريق الساحلي وجاء دوري في النزول فجاء الاعتراض مرة أخرى “لا” دعوه لنتركه هو الأخير. فبقيت متابعا للعملية برمتها رغم الألم الذي يعتصرني والجراح وآثار التعذيب البادية على جسمي النحيف وكبقية زملائي المختطفين تمت إعادة ضربي ورفسي وتجريدي من الهاتف والمفاتيح والنقود ثم أكمل أحدهم “جريمته” بأن رمى علي صخرة كبيرة أصابتني على مستوى القدمين لولا اللطف لكانت أصابت رأسي وأردتني قتيلا… ولعل كل ما رأيناه ينطبق بشكل أو بآخر على الشهيد كمال عماري، ولكم أن تتخيلوا نفس دائرة التعذيب تحيط به وتشبعه عنفا وقمعا وقتلا. فعاش بعدها أياما ليلفظ كمال عماري أنفاسه الأخيرة يوم 2 يونيو 2011. كانت الجملة المفتاح الأمنية التي وجهت لكمال يومها: – هل أنت معهم؟ – فأجاب نعم. فأبرحوه رفسا وتعنيفا وارتكبوا الجريمة. تذكرت يومها والتعذيب يملأ جسدي الصغير كيف لممت نفسي بعد أن طلب مني تقديم الشهادة والوقوف عند رأس الشهيد عند آخر لحظات حياته رحمه الله وقبل أن يغادرنا للآخرة، دون أن يأتي في رأسي أنها نعيه الأخير أمام العالم. كانت صرخاته وأناته مؤلمة جدا، وكانت كدماته وكسوره وجراحه وانتفاخ وجهه باديا للعيان، وكان الأنين والألم لغته إلينا. يومها كان والدي رحمه الله حيا، فرأى المشهد على الجزيرة وفرانس24، ثم سألني عن ذلك، ولكي لا أفجعه في ولده وأرعبه، قلت له مجرد تشابه. رحمه الله. وكأن المشهد وقع البارحة، لازالت أحداثه منقوشة وواضحة لا تنس، ولازال القتلة والجناة أحرارا.