عرفت مدينة أسفي كغيرها من المدن والأرياف المغربية انخراطا قويا لساكنتها في الحراك الشعبي الذي انطلق في بلدنا الحبيب بتاريخ 20 فبراير من سنة 2011، متأثرا برياح الربيع العربي ومستلهما حراكه ووهجه من التجربتين التونسية والمصرية. وفي هذا السياق تألق أحرار مدينة أسفي وسجلوا تفاعلا متميزا مع المطالب الاجتماعية والسياسية المرفوعة من طرف نشطاء حركة 20 فبراير، الداعية إلى محاربة الفساد والاستبداد والمنادية بالتنمية الاقتصادية وتمثل المبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
حيث خرجت المدينة كغيرها من المدن الأخرى في عشرات من التظاهرات السلمية كانت من بينها المسيرة الاحتجاجية السلمية المنظمة عصر يوم الأحد 29 ماي 2011 بحي دار بوعودة، والتي شارك فيها مجموعة من نشطاء حركة 20 فبراير وكان من بينهم قيد حياته الشهيد كمال عماري، الذي دأب على المشاركة في جميع الأشكال النضالية المنظمة بالمدينة.
هكذا وبعد انتهاء المسيرة المعلومة، وبينما هو متوجه إلى عمله كحارس ليلي بميناء آسفي، فوجئ بسبعة أفراد من عناصر الأمن بزي مدني استفردوا به في شارع عبد الرحمن الوزاني المعروف بشارع دار بوعودة، وبعد الاشتباه في كونه كان من المشاركين في المسيرة، قاموا بضربه ضربا مبرحا وفي شتى الأماكن الحساسة وتمكن من الإفلات منهم والابتعاد لعدة خطوات، حيث لحقوا به من جديد، وقاموا بطرحه أرضا فأشبعوه ركلا وضربا بالهراوات بشكل عنيف وغير متحفظ وذلك لعدة دقائق، ليصاب بعدة كدمات في جميع أنحاء جسمه، كما قاموا بضرب وتهديد كل من حاول تخليصه منهم، ثم تركوه ملقى على الأرض. وبعد أن استجمع قدراته، رجع أدراجه إلى بيته. واتصل بزملائه في حركة 20 فبراير الذين بادروا لتصوير الإصابات التي تعرض لها وإلى الاستماع لشهادته في الموضوع. ونظرا لتفاقم حالته الصحية، فقد توجه بتاريخ 31/05/2011، إلى عيادة أحد الأطباء المختصين في جراحة العظام والمفاصل، الذي قام بفحصه، ووصف بعض الأدوية له، ثم عاد الشهيد ليراجع طبيبا آخر يوم 01/06/2011، ولتسلم له وصفة طبية ثانية.
لكن بحلول مساء يوم 01/06/2011، أصبحت حالته الصحية متدهورة جدا، مما استدعى نقله إلى مصلحة المستعجلات بالمستشفى الإقليمي بآسفي حيث فارق، رحمه الله، الحياة في صبيحة اليوم الموالي.
كمال شهيد حراك الشباب المغربي
فوجئ المغاربة قاطبة يوم 02 يونيو 2011 بالبيان الصادر عن شبيبة العدل والإحسان بمدينة أسفي يعلن من خلاله خبر وفاة الأخ كمال عماري على الساعة الثانية زوالا، مشيرا إلى أنه ناشط بحركة 20 فبراير بأسفي وعضو شبيبة العدل والإحسان، وذلك على إثر جروح خطيرة في الرأس وعلى مستوى الركبة والعين والتي تعرض لها أثناء مشاركته بالمسيرة التي دعت لها حركة 20 فبراير بالمدينة يوم الأحد 29 ماي 2011، محملة المسؤولية للدولة وللأجهزة الأمنية المحلية وداعية كل الفاعلين الحقوقيين المحليين والوطنيين والدوليين لتبني ملف الشهيد واعتبار هذا الملف انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان وجريمة بشعة ضد الإنسانية.
وفي نفس اليوم أصدرت حركة 20 فبراير بأسفي بيانا تنعي من خلاله شهيدها كمال عماري محملة المسؤولية للأجهزة الأمنية بدءا من وزير الداخلية إلى أصغر موظف بها، معلنة بأن كمال عريس الشهداء وأنه حي لم يمت.
الآلاف يزفون الشهيد كمال عماري إلى مثواه الأخير
انطلق موكب تشييع الشهيد كمال عماري في مدينة أسفي، على الساعة الثالثة والنصف من زوال يوم السبت 4 يونيو 2011 من أمام مستودع الأموات بمستشفى محمد الخامس، بمشاركة الآلاف من ساكنة المدينة وناشطي حركة 20 فبراير الذين حجوا من مجموعة من المدن المغربية، وبحضور شخصيات سياسية وجمعوية من ضمنهم أعضاء من مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان، وكذا أعضاء من الأمانة العامة لدائرتها السياسية، وعن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان حضر نائب الرئيس الأستاذ عبد الحميد أمين والأستاذة خديجة المروازي عن منظمة الوسيط لحقوق الإنسان، وجاب موكب التشييع مجموعة من شوارع المدينة بدءا بشارع كيندي ثم طريق المطار مرورا بحي الكورس وحي الزاوية وحي دورة بوعودة وحي القليعة، وصولا إلى حي كاوكي حيث تمت صلاة الجنازة بمسجد السلام لينقل بعدها الشهيد إلى مثواه الأخير وسط حشود مودعة داعية له بالرحمة والغفران مؤكدة على مواصلة طريق النضال دون خضوع أو خنوع.
موقف الهيئات والمنظمات الحقوقية من الملف
موقف الائتلاف المغربي لحقوق الإنسان
في نفس اليوم الذي استشهد فيه كمال عماري، صدر عن الائتلاف المغربي لحقوق الإنسان بيانا يعلن من خلاله تضامنه مع حركة 20 فبراير في وفاة عماري، ومدينا بقوة الاعتداءات الهمجية التي أدت إلى استشهاده وإصابة العديد من النشطاء، ومطالبا بفتح تحقيق عاجل ونزيه في جريمة القتل والاعتداءات المتكررة التي شهدتها مختلف التظاهرات التي عرفها المغرب لتحديد المسؤوليات وترتيب الجزاءات حتى لا يظل منتهكو حقوق الإنسان بعيدين عن المساءلة وإفلاتهم من العقاب، ومؤكدا تضامنه ودعمه الكامل لمختلف الأشكال الاحتجاجية السلمية والحضارية التي تمارسها حركة 20 فبراير، ومنددا باستخدام السلطات للعنف ولجوئها إلى أساليب القمع والتخويف في حق مواطنات ومواطنين يعبرون بشكل سلمي وحضاري عن مطالبهم المشروعة في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان، معلنا في ختام البيان بعد تقديمه التعزية لأسرة الشهيد وللشعب المغربي مشاركته في المسيرة التي دعا إليها المجلس الوطني لدعم حركة 20 فبراير يوم 5 يونيو 2011 بالعاصمة الرباط.
كما ناشد الرأي العام الدولي وخاصة الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ مواقف حازمة من انتهاكات حقوق الإنسان الماسة بالحقوق والحريات بالمغرب.
وجدير بالذكر أن هذا الإئتلاف الحقوقي يضم 17 جمعية حقوقية ومدنية والمتمثلة في المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة، المرصد المغربي للسجون، منظمة العفو الدولية- فرع المغرب -، جمعية عدالة، الجمعية المغربية للنساء التقدميات، الجمعية المغربية للدفاع عن استقلال القضاء، منتدى الكرامة لحقوق الإنسان، المركز المغربي لحقوق الإنسان، المرصد المغربي للحريات العامة، منظمة حرية الإعلام والتعبير، الهيئة المغربية لحقوق الإنسان، الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان، منتدى المواطنين، الهيئة الوطنية لحماية المال العام بالمغرب.
موقف منظمة التحالف الدولية
وبتاريخ 03 يونيو 2011 توجهت منظمة التحالف الدولية-قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مع المحامية سميرة كزاز من هيئة بروكسيل إلى مدينة أسفي للتحقيق في ملابسات وفاة الشاب كمال عماري الذي مات في ظروف مقلقة حسب وصفهم، حيث تمكن المراقبون من لقاء إخوة كمال عماري وتنسيقية حركة 20 فبراير بالمدينة وخلصوا إلى معطى مفاده أن الأجهزة الأمنية هي المسؤولة عن تعذيبه وتعريضه للضرب المبرح مما جعل حالته الصحية تتدهور وبالتالي يلقى حتفه يوم 02 يونيو 2011.
وقد دعت في آخر تقريرها السلطات المغربية إلى وقف كل مظاهر العنف ضد أعضاء حركة 20 فبراير واحترام حقهم في التجمع والتظاهر وحرية التعبير.
موقف المرصد المغربي للحريات العامة والوسيط من أجل الديموقراطية وحقوق الإنسان
بعد مرور 14 يوما عن مقتل الشهيد كمال عماري صدر عن المرصد المغربي للحريات العامة والوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان يوم الخميس 16 يونيو 2011 بالرباط تقريرا بشأن ملابسات وفاة عماري وتداعيات الاعتداء على المتظاهرين يوم 29 ماي 2011 بأسفي، حيث خلص التقرير الذي أعده فريق للتقصي والمكون من الأساتذة خديجة المروازي الكاتبة العامة لمركز الوسيط من أجل الديمقراطية وحسن السملالي ويوسف غويركات، إلى كون الاعتداء العنيف الذي تعرض له الفقيد عماري من طرف رجال الأمن هو السبب المباشر وراء موته.
وقد أشار معدوا هذا التقرير إلى أن أهم المعطيات والخلاصات التي وصلوا إليها، تمت صياغتها بناء على إعمال تقنيات الاستماع الفردي والجماعي لمختلف الشهادات المتعلقة بملابسات القضية وتشمل أقوال الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بأسفي، وأقوال والي جهة دكالة عبدة، وأقوال المندوب الإقليمي لوزارة الصحة، وكذا الاستماع إلى شهادات عائلة الفقيد عماري، والشهود الذين عاينوا واقعة الاعتداء عليه، وعينة من الضحايا الذين تعرضوا للاعتداء والاختطاف بالإضافة إلى الاستماع أيضا إلى عينة من الفعاليات المحلية المدنية والسياسية والنقابية، فضلا عن تصريحات لعدد من المواطنين بمدينة أسفي.
ليختتم التقرير بتوصيات أهمها، ضرورة العمل على كشف الحقيقة كاملة في ظروف وفاة كمال عماري وتحديد المسؤوليات في ذلك مع اتخاذ جميع الإجراءات القانونية لمساءلة مرتكبي الاعتداءات والتعذيب والاختطاف والحجز يوم 29 ماي 2011 مع تحريك المتابعات في مواجهة المتورطين في ارتكاب هاته الأفعال، والعمل على فتح تحقيق لتحديد المسؤوليات على مستوى القرار الأمني في مختلف مسؤولياته، بخصوص الإفراط في استعمال القوة وما رافقه من اعتداء واختطاف واحتجاز وتعذيب ومعاملات مهينة وحاطة بالكرامة.
موقف المجلس الوطني لحقوق الإنسان
وفي نفس السياق وبعد مرور ثلاثة سنوات عن استشهاد كمال عماري جاء على لسان السيد ادريس اليزمي، رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي قدم تقريرا أمام مجلس البرلمان يوم الاثنين 16 يونيو 2014، يرصد من خلاله خلاصة عمل المجلس خلال الفترة الممتدة من مارس 2011 إلى غاية متم سنة 2013.
وفي سياق حديثه عن وضعية حقوق الإنسان والحريات بالمغرب رصد التقرير تحت عنوان "الحق في التظاهر السلمي" عددا من حالات التوتر التي ترتَّبتْ عنها انتهاكاتٌ لحقوق الإنسان ومنها أحداث أسفي خلال شهر ماي من سنة 2011.
وهكذا أقر التقرير بالاستعمال المفرط وغير المتناسب للقوة مما تسبب في بعض الحالات في المس بالحق في الحياة (آسفي وآسا) والمس بالسلامة البدنية لبعض المحتجين.
وبصرف النظر عن خلفيات وسياقات ومرامي هذا الإقرار الواضح والمباشر، فإنها المرة الأولى التي تعترف فيها مؤسسة رسمية (المجلس الوطني لحقوق الإنسان)، وأمام البرلمان، بمسؤولية الدولة في وفاة الشهيد كمال عماري في أسفي يوم 2 يونيو 2011 بعد أن تعرض للاعتداء من طرف القوات العمومية.
وقال التقرير أن المجلس سجل تنظيم 23121 تجمعا ومظاهرة سنة 2011، وسجل أيضا 20040 تجمعا وتظاهرة سنة 2012 غطت كل التراب الوطني، كما لاحظ أنها حافظت على طابعها السلمي ولم تشهد عنفا إلا في حالات معزولة وناذرة.
المساطر القانونية والقضائية التي سلكتها هيئة دفاع الشهيد وموقفها من القضية
في نفس اليوم الذي أعلن فيه عن وفاة الشهيد كمال عماري سارعت هيئة الدفاع و ن ورائها أسرة الضحية إلى تقديم شكاية بخصوص الوقائع المشار إليها أعلاه إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بأسفي، الذي قام بتكليف نائبين من نوابه للقيام بمعاينة جثمان الشهيد بالمستشفى الذي كان يرقد به عشية اليوم الثاني من يونيو 2011، وتحرير محضر بهذه المعاينة، ثم أعلن عن تكليف مركز الطب الشرعي التابع للمستشفى الجامعي ابن رشد بإجراء تشريح طبي على الضحية، وهو الأمر الذي تم في يوم الوفاة ليلا.
وفي اليوم الموالي للوفاة تقدم فريق الدفاع بطلبين لإجراء خبرة طبية على الضحية أمام المحكمة الابتدائية بأسفي وأمام المحكمة الإدارية بمراكش -باعتبارها المختصة ترابيا- لكن المحكمتين معا قضتا بعدم قبول الطلب، ليتم الموافقة على استخراج جثمان الشهيد ليدفن بمشاورة مع أسرته بتاريخ 04 يونيو 2011، بعد وعد رسمي من النيابة العامة على أنها ستمكن الدفاع وعائلة الشهيد من نسخة تقرير التشريح فور التوصل به، إلا أن النيابة العامة خلال يوم 06/06/2011 أصدرت بلاغا عبر وسائل الإعلام الرسمية تقدم فيه مستخلصا مجتزئا من خلاصات التقرير، وتعلن فيه عن تكليف الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بالقيام بإجراء بحث تمهيدي في القضية.
وبعد فترة تناهز السنة على وقائع الحادثة، أحال الوكيل العام الملف على قاضي التحقيق -الملف عدد 280/2011- ليباشر التحقيق ضد مجهول من أجل تهم العنف العمدي المؤدي للوفاة دون نية القتل والعنف العمدي.
وقد أكدت هيئة دفاع الشهيد في بلاغاتها الثلاثة السابقة بمناسبة تخليد ذكرى استشهاده السنوية في الندوات الإعلامية، التي نظمتها لإطلاع الرأي العام بمستجدات الملف، على متابعتها لمسار التحقيق عن كثب، بتسجيل حضورها طرفا مدنيا، وبأنها منعت من الحصول على نسخ من وثائق الملف، بما في ذلك محاضر الشرطة وتقرير التشريح الطبي، وغيرها من الوثائق،كما تخوفت من مسار التحقيق الذي عرف عدة جلسات لمدة أربع سنوات، حيث استمع فيها قاضي التحقيق لمجموعة من الأشخاص، دون أن يخرج بخلاصات ومستنتجات في القضية، ودون توجيه أي إجراء من إجراءات البحث والتحقيق ضد أي من رجال القوة العمومية رؤساء ومرؤوسين رغم أن تقرير المجلس الوطني يشير صراحة إلى مسؤولية عناصر أجهزة الأمن ورؤسائهم.
كما أشارت هيئة الدفاع إلى أن جريمة الاعتداء على الشهيد كمال عماري، هي جريمة دولة تتضمن المس بالحق في الحياة وفي السلامة الجسدية والتعذيب، وانتهاك الحق في الانتماء والحق في التعبير والحق في الاحتجاج السلمي، وهي جرائم سياسية بعضها لا يسقط بالتقادم وفقا للقانون الإنساني الدولي والقانون الجنائي المغربي، مصرة على كشف الحقيقة كاملة وتحديد المسؤوليات الفردية والمؤسسية ومحاكمة الجناة وكل المتورطين في القضية أمام قضاء مستقل ونزيه مع توفير كافة الضمانات لمحاكمة عادلة. ملوحة بأنه في حالة استنفاد جميع إمكانات الحصول على الحقيقة والإنصاف وجبر الضرر أمام المؤسسات الداخلية، إمكانية لجوء عائلة الضحية للمؤسسات الدولية المختصة، كما حملت المسؤولية للجهات القضائية المتدخلة في الملف وللسيد وزير العدل والحريات ولجميع السلطات العمومية المغربية في كل انحراف يعرفه مسار الملف، وفي كل إجراء من شأنه طمس الحقيقة والإنصاف.