ما يميز الوضع السياسي الحالي بالمغرب، هو الانحطاط والتردي، بصفة عامة. ويكاد المتتبعون والمهتمون بالشأن السياسي العام أن يجمعوا على هذا الأمر. وقد جاءت الخطب الملكية الأخيرة لتُزكِّي هذا الرأي وتضفي عليه مزيدا من الرسوخ والتكريس والمشروعية؛ وهو ما جعله كثير التداول؛ إذ أصبح الأمر موضع اهتمام الرأي العام بكل اتجاهاته، بما في ذلك “رأي” من يمكن أن يطلق عليهم “من هب ودب”(ولا أعني بهم، هنا، ما يعرف بالعامَّة). لن أعير أي اهتمام لما يكتب (أو كتب) حول الموضوع من قبل ذلك الصنف من البشر الذين ينتظرون سقوط البقرة لإخراج سكاكينهم والانقضاض على الفريسة أو الذين يجدون ذاتهم في الأحكام الجاهزة وفي مقولة “أولاد عبد الواحد كلهم واحد” لتصفية حساباتهم مع الأحزاب التي تقف لهم غصة في الحلق. ولن أحفل حتى بالكتابات الجادة والرصينة حول الوضع الحالي؛ إذ ليس هذا ما يهمني الآن. لقد جعلتني الخطب الملكية، في شقها المتعلق بالوضع السياسي، أستحضر أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة التي طوت، بشكل أو بآخر، صفحة ما يعرف في الأدبيات السياسية ببلادنا بسنوات الجمر والرصاص أو مرحلة الاستبداد والحكم الفردي. وقد تساءلت مع نفسي إن لم يكن الوضع السياسي الحالي في أمس الحاجة إلى نوع آخر من الإنصاف والمصالحة، الذي يجب أن ينكب على ما حصل في سنوات الجمر والرصاص وكذا في الفترة التي يطلق عليها مرحلة الانفتاح الديمقراطي؛ خاصة وأن العمل السياسي ببلادنا قد تعرض، خلال هذه المدة، لعملية تشويه مقصودة أدت إلى نتائج كارثية على بنائنا الديمقراطي الذي لا يزال يئن تحت وطأتها؛ وهو ما يتطلب من الدولة نوعا من جبر الضرر، والمتمثل في الاعتراف بدورها في هذا التشويه الإرادي والاعتذار إلى الشعب المغربي عن ذلك، حتى تعود الثقة إلى المؤسسات، التمثيلية منها والحزبية، وتعود للعمل السياسي قيمته وأهميته. لقد عبَّرت أعلى سلطة في البلاد عن عدم رضاها على الوضع السياسي الحالي وأعلنت، صراحة، عن عدم ثقتها في السياسيين وفي تدبيرهم لقضايا المواطنين. وهو اعتراف رسمي، ومن أعلى سلطة، بتردي الوضع السياسي ببلادنا. لكن الإقرار بهذا الوضع والاعتراف بسلبياته والتوجه بالانتقاد للفاعلين الحاليين فيه… لن يغير من هذا الوضع شيئا، ما لم يتم الانكباب على الأسباب الحقيقية التي أدت إليه؛ ذلك أن الوضع الحالي ما هو إلا نتيجة موضوعية لمسار سياسي معلوم لدى المتتبعين ولدى الفاعلين فيه، سوء الحاليين منهم أو السابقين. وأهم ما ميز هذا المسار، هو التمييع الذي تعرض له على يد الدولة، في شخص وزارة الداخلية، من خلال تفريخ الأحزاب لخلق تعددية مصطنعة(وهو ما يعرف في القاموس السياسي المغربي بالأحزاب الإدارية) وصنع الخرائط السياسية وفبركة الأغلبيات التمثيلية سواء على المستوى المحلي أو المستوى الوطني. فليس غريبا، إذن، أن يصل الأمر إلى ما وصل إليه مع نخب مصنوعة على المقاس حتى يتم التحكم فيها بكل سهولة. وبما أن القناعة قد حصلت لدى الدولة، بشهادة أعلى سلطة فيها، بأن الوضع السياسي الحالي غير صحي، فإن الأمر في غاية الأهمية؛ ذلك أن هذه الشهادة، هي بمثابة إعلان عن إفلاس المنظومة واعتراف بفشل النموذج السياسي، كما سبق الاعتراف بفشل النموذج التنموي. وبدون شك أن هناك ارتباطا وثيقا بين النموذجين وبين أسباب فشلهما؛ وأبرز هذه الأسباب الفساد السياسي والمالي والأخلاقي… فالوضع يحتاج، إذن، إلى علاج؛ إذ لا يمكن أن يبقى الأمر على ما هو عليه أو أن يستمر العمل بنفس النهج ونفس الوسائل. لكن، لن يفلح أي علاج إذا لم يسبقه تشخيص دقيق يقف على الأسباب وعلى المسببات. فالتشخيص الدقيق شرط أساسي لنجاح أي علاج؛ بل هو السبيل الآمن والأنجع للعلاج الصحيح والفعال؛ وما عدا ذلك، سيبقى مجرد مسكنات لا تفيد في شيء. لكن السؤال المطروح، في هذا الصدد، هو: هل وصلت القناعة إلى مستوى توفر الإرادة السياسية عند كل الفرقاء، وفي مقدمتهم الدولة، لقبول القيام بهذا التشخيص الدقيق والفعلي للوقوف، بكل موضوعية، على مكمن (أو مكامن) الداء؟ وهل تقبل كل الأطراف، رغم اختلاف درجات المسؤولية، بالقيام بنقد ذاتي، يتم الاعتراف فيه بما ارتكب من أخطاء وما تم من ممارسات ميَّعت العمل السياسي وأفسدت المنافسات الانتخابية وأفقدت الحياة السياسية جديتها وجاذبيتها، كما أفقدتها صدقيتها ومصداقيتها؟… وبمعنى آخر، فإن الوضع السياسي الحالي يحتاج إلى نوع آخر من الإنصاف والمصالحة، كما أسلفت، القصد منه إنجاز تقييم موضوعي وتشخيص دقيق (بناء على شهادات ووثائق، المكتوب منها والمسموع والمرئي) يحدد المسؤوليات ويقدم التوصيات والوصفات الكفيلة بتجاوز الوضع وفتح صفحة جديدة تقطع مع الممارسات السابقة من أجل الوصول إلى بناء نموذج ديمقراطي سليم. فهل تقبل الأطراف المستفيدة من هشاشة البناء الديمقراطي بتقييم وتقويم الوضع، خاصة إن كانت الدولة من بين هذه الأطراف؟ وعلى كل، فالإنصاف والمصالحة يحتاج إلى وجود هيئة مستقلة ومحايدة – مكونة من شخصيات علمية (متخصصين في علم الاجتماع السياسي ومن خبراء في العلوم السياسية ومتخصصين في تاريخ المغرب ما بعد الاستقلال، وبالأخص الدارسين للحياة السياسية والحزبية) وحقوقية وفكرية – يعهد إليها بتفكيك الوضع السياسي، وأساسا الحزبي، منذ ظهور أول حزب أنشئ بإيعاز من الدولة وعُهد بالمهمة لرجالاتها (ومن بينهم، أو على رأسهم، عبد الكريم الخطيب والمحجوبي أحرضان) في سنة 1957، إلى آخر حزب أسسه وزير منتدب سابق في الداخلية (مستشار ملكي حاليا)، سنة 2008. لقد تعرض البناء الديمقراطي ببلادنا إلى عملية غش كبيرة وتعرض العمل الحزبي إلى عملية تزوير وإفساد ممنهجة. وفي غياب المحاسبة وغياب النقد الذاتي وانعدام فضيلة الاعتراف بالأخطاء… سيتواصل تمييع العمل السياسي وتكريس ثقافة تبخيس العمل الحزبي. وهذا واضح من المواقف العدائية ضد الأحزاب السياسية، التي تروج لها بعض المنابر الإعلامية وبعض الأوساط المعادية للديمقراطية. وقد انتشرت هذه الموجة العدائية ضد الأحزاب السياسية بشكل واسع بين أفراد المجتمع، فصارت الأحزاب تنعت بالدكاكين السياسية؛ كما صرنا نسمع دعوات (تستند على ما جاء في الخطب الملكية) إلى الاستغناء عنها(بينما أكد الملك مرارا، في خطبه، على التعددية الحزبية كخيار تاريخي واستراتيجي للدولة المغربية)؛ وكأن الديمقراطية يمكن أن تبنى بدون أحزاب. لكن، طبعا، ليس بأي أحزاب؛ إنما بأحزاب قوية ومستقلة في قراراتها؛ وإلا فالبناء الديمقراطي سيبقى هشا. وهذا هو حال بلادنا اليوم. لقد تم العبث، عن سبق وإصرار، بالحياة السياسية التي أنتجت لنا مخلوقات حزبية هجينة ونخبا سياسية فاسدة. فحتى الأحزاب العريقة، ذات الولادة الشرعية والتاريخ النضالي المجيد، لم تسلم من تأثير هذا العبث؛ الشيء الذي ولَّد مشهدا سياسيا غريبا وغرائبيا؛ آخر تمظهراته قطبية مصطنعة من وجهين لعملة واحدة، زادت في تعميق أسباب العزوف الانتخابي؛ إذ أصبح المصوتون بقناعة سياسية يشكلون الأقلية؛ والباقي يدلون بأصواتهم مقابل “رشوة انتخابية”، يقدمها تجار الانتخابات إما على شكل عمل إحساني أو على شكل مقابل مادي يقدم يوم التصويت؛ بينما الأغلبية تقاطع صناديق الاقتراع . إننا نقترح على الدولة اللجوء إلى نوع آخر من الإنصاف والمصالحة من أجل القطع مع عرفه ويعرفه المشهد السياسي من ممارسات تسيء لبنائنا الديمقراطي؛ وبهذا يمكن لديمقراطيتنا أن تنضج ولأحزابنا أن تتطور ولمؤسسات الدولة أن تتحصن ضد الريع والفساد المستشري في دواليب الدولة وفي المجتمع. في ختام هذه المساهمة المتواضعة حول الواقع السياسي الحالي، أحيل على مقال لي بعنوان” التعددية الحزبية بالمغرب بين “خطيئة” النشأة و”شرعية” الواقع” (جريدة “الاتحاد الاشتراكي”، 29 نونبر 2016)، الذي يبرز، في خلاصته، أن الوضع الحالي “ليس في صالح التعددية الحقيقية القائمة على الفرز المنهجي والوضوح الفكري والإيديولوجي؛ بل يكرس التعددية العددية ليس إلا. وهي تعددية زائفة تعيق التطور الديمقراطي بسبب مساهمتها في اغتيال القيم الديمقراطية الحقيقية وتعميم ثقافة اليأس والتيئيس، من جهة، وثقافة الريع السياسي (ثقافة “الهمزة”) والانتهازية الفجة، من جهة أخرى.” وهذا سبب كاف للدعوة إلى نوع آخر من الإنصاف والمصالحة من أجل تقويم اعوجاج بنائنا الديمقراطي.