يقر الكثير من المغاربة اليوم بما لحقهم من إحباط وخيبة أمل كبرى، جراء تولي إسلاميي حزب "العدالة والتنمية" مسؤولية تدبير الشأن العام، مستغلين مطالب الحراك الذي قادته "حركة 20 فبراير" خلال عام 2011، إذ ثبت افتقادهم للمؤهلات الضروية في معالجة قضايا وهموم المواطنين، واتضح جليا أنهم لم يكونوا في مستوى كسب رهان التغيير وترجمة وعودهم إلى حقائق ملموسة، وأن شعاراتهم وبرامجهم الانتخابية لم تكن إلا حزمة أوهام في بحر الظلام. حيث أن مظاهر الفساد تفاقمت وازدادت أحوال الناس تأزما، بضرب قدرتهم الشرائية والإجهاز على مكتسباتهم، وارتفاع معدلات البطالة والأمية والهدر المدرسي واتساع رقعة الفوارق الاجتماعية والمجالية. ذلك أنه تبعا للخيارات اللاشعبية والقرارات الارتجالية وغياب المنهجية التشاركية، وما ترتب عنها من اختلالات في كافة القطاعات، صرنا نعيش على وقع الاحتجاجات الغاضبة والمنددة بما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من تدهور رهيب، من إقليمالحسيمة إلى إقليمالصويرة إلى إقليميبني ملال وزاكورة ووو… ثم إقليمجرادة. فلا تكاد تخبو احتجاجات منطقة وتفتح بشأنها تحقيقات لتحديد المسؤوليات حول ما يقع من أحداث متفاوتة، حتى تلتهب في أقاليم أخرى، يوحد بينها فشل النموذج التنموي المعتمد وتعثر المشاريع. لاسيما بعد أن بدأت أرواح الفقراء تتساقط تباعا كأوراق الخريف، بسبب الفقر والهشاشة والتهميش والإقصاء. فبعد "حراك الريف" الذي انطلقت شرارته الأولى يوم 28 أكتوبر 2016 بمصرع السماك محسن فكري "شهيد الحكرة"، الذي قضى مطحونا في قلب شاحنة لطحن النفايات بإقليمالحسيمة. تلته فاجعة جماعة سيدي بولعلام بإقليمالصويرة، على خلفية وفاة 15 امرأة يوم 19 نونبر 2017 عقب عملية تدافع أثناء توزيع معونات غذائية بئيسة. وقبل حتى أن تجف دموع عائلات الشهيدات ال15 وينال المسؤولون المقصرون جزاءهم في إطار "الزلزال السياسي"، الذي أراده ملك البلاد أن يكون تفعيلا لمبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة" الدستوري، نستفيق مرة أخرى صباح يوم 22 دجنبر 2017 على فاجعة مدينة جرادة الجريحة والملتحفة بالسواد، ذهب ضحيتها شقيقان في أحد الآبار العشوائية للفحم الحجري. حيث خرجت الساكنة عن بكرة أبيها يوم 25 دجنبر 2017 في موكب مهيب لمرافقة "شهيدي الفحم" إلى متواهما الأخير، متحدية حصار قوات الأمن، مرددة شعارات قوية ضد المسؤولين والسلطات المحلية التي كانت تسعى إلى دفن الضحيتين في جنح الظلام، وكأنهما إرهابيان لا تجوز إقامة صلاة الجنازة عليهما. ولمكر الصدف أن تحدث هذه المآسي، في وقت يتحمل قياديون من الحزب الإسلامي الحاكم مسؤوليات وزارة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية، وزارة الشغل والإدماج المهني ووزارة الطاقة والمعادن والتنمية المستدامة. وجدير بالذكر أن مدينة جرادة المتوالية جراحاتها وانكسارات أبنائها، كانت قد حظيت باهتمام ملكي في خطاب رسمي من مدينة وجدة بتاريخ 18 مارس 2003، أعلن الملك من خلاله عن مبادرة وطنية لتنمية الجهة الشرقية، دون أن يواكب ذلك أي مجهود مشهود في اتجاه النهوض بأوضاعها، حيث قال: "…فإنه يتعين وضع برنامج لتنمية وحماية النجود والواحات، في كل من عين بني مطهر وبوعرفة وفكيك، ومدينة جرادة، التي حرصنا على إدراجها واستفادتها، من برامج وكالة تنمية الأقاليم الشمالية، تجسيدا لعطفنا الملكي الفائق عليها". فأين نحن من هذه التوجيهات السامية؟ وماذا أعدت الحكومات المتعاقبة للحد من آثار الفقر والتهميش، من مخططات تنموية حقيقية وحلول بديلة بعد إقدام السلطات في عام 2001 على إغلاق مناجم الفحم، التي كانت تعد المصدر الوحيد لعيش الساكنة؟ ففي غياب البنيات التحتية والمرافق الصحية ومراكز الاستثمار وانعدام فرص الشغل، ظلت المدينة تندب حظها التعيس وتضاعفت معاناة أبنائها العاطلين من مختلف الأعمار وهم كثر، الذين وجدوا أنفسهم مضطرين إلى المجازفة بأرواحهم في سبيل تأمين لقمة العيش لذويهم، متحدين شبح الموت بالتنقيب العشوائي وسط "الحواسي" أو "السندريات" أو آبار استخراج الفحم، غير مبالين بمخاطر انهيار الصخور وارتفاع منسوب المياه، كما حدث للشهيدين الأخيرين، اللذين لا يتجاوز عمر أكبرهما سن الثلاثين. فمدينة جرادة تعتبر عاصمة الفحم وموطن مرض السيليكوز بامتياز، لكونها مؤثتة بعديد الآبار الشبيهة بالقبور العميقة والمفتوحة في وجه أبناء المنطقة، حفرت لتعويض المناجم المغلقة بوسائل بدائية وبشكل عشوائي دون وقاية ولا رقابة السلطات المحلية. حيث صارت تتوفر على حوالي 3000 بئر يصل عمق بعضها إلى 80 مترا حسب البعض، ورغم خطورتها يرتمي الفقراء داخلها بحثا عن الرزق. وحتى من لم يمت اختناقا وسط المياه الغامرة وتحت الأنقاض، فإنه سيموت لا محالة بداء السيليكوز اللعين بعد بضع سنوات، دون أن تكون له القدرة على علاج رئتيه. بينما المسؤولون منفصلون عن الواقع المزري، ولا يقدمون أدنى أسباب الحماية لهؤلاء المستضعفين، الذين يمتص دماءهم كبار المحتكرين لرخص الاستغلال، من خلال الاستيلاء على الفحم بأبخس الأثمان… فأن يتم الإقرار بلسان مستشار عن فريق الحزب الحاكم، أثناء الجلسة الشهرية المنعقدة بمجلس المستشارين حول "السياسات العمومية المرتبطة بمعالجة التفاوتات المجالية" يوم 26 دجنبر 2017، بأن الاحتجاجات المتزايدة بمختلف الأقاليم، انتفاضة حقيقية ضد الاختلالات الصارخة في توزيع الثروة، وتعبير صادق عن غياب الخدمات الاجتماعية التي من شأنها حفظ كرامة المواطن. ليس له من معنى عدا إخفاق سياسة الحكومة، التي بات لزاما عليها إنجاح ورش الجهوية الموسعة، باعتبارها رافعة أساسية للتنمية ومدخلا حقيقيا للحد من البطالة والفقر والتفاوتات المجالية والفوارق الاجتماعية…