لايمكن لمن يحمل داخل صدره قلبا بشريا يحوي قدرا ضئيلا من ذرات الحنان والعطف أن يشاهد منظر إحتراق " مي فتيحة " بائعة " البغرير" دون أن تهتز مشاعره ويتزلزل كيانه ويقشعر بدنه ويحس في تلك اللحظة الصادمة بإحتراق إنسانيته وإهدار كرامته وتحطم كل أحاسيس الرأفة والرحمة من حوله . " مي فتيحة" لم تنتحر لكنها إستشهدت دفاعا عن كرامتنا الممتهنة ، كيف لها أن تنتحر وهي التي واجهت طيلة سنوات عديدة شظف العيش وقلة ذات اليد بصبر وصمود وأنفة ولم ترض لنفسها الذل والهوان لكسب المال بالطرق إياها ، وإختارت طريق الشرف والكسب الحلال . كيف لها أن تودع هذه الحياة بتلك الطريقة المفجعة وهي التي ظلت تواجه قسوتها بزهد كثير وعزة كبيرة وقلب عامر بالوئام والحب والإيثار . " مي فتيحة " إستشهدت من أجلنا جميعا ، نعم من اجلنا ودفاعا عنا ، ماتت ولسان حالها يقول : كفى إستبدادا !!كفى طغيانا!! كفى تجبرا !! ماتت وفي موتها إعلان عن قتل الجبن الجاثم على نفوسنا ، إعلان عن قتل الإستسلام والضعف والخضوع والخوف ، في إستشهادها رفض بطولي لمقايضة الكرامة بالمذلة من أجل مال أو منصب أو إمتياز ...وهلم جرا . "مي فتيحة " لم تمت ولكنها قتلت ، لكنها ستبقى خالدة كرمز بصيغة المؤنث فضل الذود عن كرامتنا البشرية ومواجهة الطغيان بتلك الطريقة المؤلمة . واقعة " مي فتيحة " تسائل سياسات الدولة في المجال الإجتماعي والإقتصادي والسياسي وتعيد طرح أسئلة التوزيع العادل لثروات البلاد وأساليب الحكم ، وتدق ناقوس الخطر بخصوص مآلات الوضع الإجتماعي المتسم بالهشاشة والقابلية للإنفجار والتفكك في أية لحظة .