في معرض الحديث عن الفساد الذي استشرى في مجتمعنا وبقوة كباقي المجتعات الاخرى التي تنخرها هذه الافة الخبيثة،قال لي ذات مرة محدثي متهكما : الفاسدون موجودون في بلدنا وفي كل الفترات ومنذ الاستقلال إلى اليوم ولو بدرجات متفاوتة،فوجود الفاسدين في كل المجتمعات وعبرالعصور شيء طبيعي، فلايخلو أي مجتمع في العالم من الفساد والفاسدين.. قلت: نعم، الفاسدون موجودون كما تقول عبر العصور وفي كل مراحل حياة بلدنا المستقل كما هو الحال لأغلب الأمم والمجتمعات، لكن المشكلة اليوم ان هذا الفساد صار ثقافة ومعلومة وسلطة خبيثةيوظفها بعض خفافيش الظلام الفاسدين المتحكمين في رقاب الناس لخدمة اغراضهم الخاصة. كما ينبغي القول، كما ان هناك الفاسدين والمفسدين هناك ايضاالشرفاءالصالحين والمصلحين.واليوم فالفاسدون المفسدون وأمام صمت الصالحين والمصلحين الأخيار تراهم يحتكرون الساحة مثل الصراصير،بل ويريدون السطو مثل الروماتيزم على كل مفاصل الحياة العامة للبلاد. الفساد والإفساد صار بواحا وشبه علني مع سكوت الأخيارالصالحين والمصلحين وسكوت غير مفهوم سياسي وسلطوي وحتى نقابي وجمعياتي.. فهو فساد متنمر يتخفى تحت أقنعة مختلفة ،ويتسمى بأسماء ومسميات مختلفة وملتبسة . أسماء ومسميات نعرفها جميعا، وتعرفها الطبقة الحاكمة جيدا، ويعرفها الفاسدون والفاسدون المفسدون أيضا.ولهذا نرى دائما الفساد ينخر البلاد ولانرى أبدا الفاسدين المفسدين، مما يجعلنا نقف أمام جريمة حقيقية وواضحة لكن بدون مجرمين معلومين،وكل جرائم الفساد تسجل دائماضد مجهولين..وحتى الحكومة الحالية تعترف بوجود الفسادوانتشاره، وهي التي سمى رئيسها المفسدين بالعفاريت والتماسيح الذي يصعب الإمساك بهم ،وقبل هذه الحكومة الملتحية كانت الحكومة الاشتراكية قد رفعت شعار محاربة الفساد ،وانتهى بها الامر في نهاية المطاف الى رفع الراية البيضاء حين صرح رئيسها عبد الرحمان اليوسفي قائلا "لن نطارد الساحرات" اي المفسدين؟! ..وفي الميادين العامة الجميع يشهرون سيوفهم الورقية اللامعة لمحاربة هذا الفساد الضبابي اللعين وفلوله، يرفعون اللافتات وهم يصرخون ويصخبون في الشوارع العامة ،ولاتسمع منهم سوى صواريخ من الكلام القتالي تتطاير هنا وهناك الى اتجاهات مختلفة رافعين شعار:"الشعب يريد اسقاط الفساد..".. لكن ما ان يحصل أحدهم على وظيفة بالزبونية، أو حقيبة حزبية بوساطة،أو رخصة استغلال معينة بطرق ملتوية، أو امتيازغير شرعي يدر عليه أرباحا سمينة، وما ان يعرف اين تؤكل الكتف، حتى تراه يتكلم على غير عادته بكلام ناعم ويصبح ويا للمهزلةمن أشد المدافعين عن الفساد .في حياتنا مئات الحالات شهدنا على تبدلها في المبادىء والسلوك بين عشية وضحاها حين حصلوا على قطعة عظم ملأوا بها أفواههم كالكلاب الضالة ،وهذه معضلة كبرى..والمشكلة اليوم، ليست في استفحال فساد الفاسدين المفسدين الأشراروأمثال هؤلاء الكلاب الضالة التي تتنازع على قطعة عظم وعلى جيفة المصالح الشخصية القذرة، بل المشكلة ايضا في صمت الصالحين والمصلحين الأخيارعن كل مايجري من فساد وإفساد، وما تثيره هذه الكلاب الضالة من عراك ونعرات ومنازعات في الحكومة وفي بعض الأحزاب والجمعيات والنقابات وفي بعض مفاصل الحياة العامة للبلاد. فحين سكت اهل الحق، كما قال علي بن ابي طالب كرم الله وجهه، اعتقد اهل الباطل انهم على حق.. فبخلاف الشرفاء الصالحين والمصلحين من المسؤولين، هناك كما قال كاتب يدعى عمر الليثي في قصة قصيرة له، نوعان آخران من المسؤولين الفاسدين المفسدين، وهذان النوعان يمكن ان نميز بينهما «إمامسؤول فاسد مفسدحمار، وإما مسؤول فاسد مفسدحرامى عفريت» اعزكم الله ، وكلاهما يرتدي بدلة عصرية بربطة عنق انيقة او بدونها، كما يرتدي بدلة عسكرية وبدلة وزير وبدلة نائب وبدلة مدير عام وجلباب وعمامة رجل دين.. ولنبدأ بالاول والذي هو الحمار ،فهو المسؤول الذى يتولى المسؤولية وهو جاهل بكل شىء، وبالطبع لأنه حمار، فمن السهل جداً قيادته، أو جره إلى أي فساد (لأنه مسؤول فاشل يؤدي عمله عن جهل) .. ومن طبيعة الحمارالاصلية انه يحمل على ظهره أحمال واثقال دون ان يعرف ما فيها.ويمشى الحمار مغمض العينين يساق ولا يسوق، والمشكلة عندما يتولى مثل هذا الحمار أي مسؤولية فإنه يضيّع كل شىء. ومن الممكن أن يستغل أحد غباءه وفشله وعدم حرفيته فى أداء مهنته ويورطه فى أشياء محظورة كثيرة، مستغلا أنه حمار.. ويكتشف فى النهاية أنه وقع بغبائه فى الفخ الذى نصبه له أحد الحرامية العفاريت لأنه حماربليد جاهل، وبذلك تسقط ورقة خريفه من شجرة المسؤولية التي لايفهم فيها شيئا.. أما المسؤول الحرامى العفريت ،على خلاف المسؤول الحمار،فهو ذكي وعارف من أين تؤكل الكتف.. نجد هذا الحرامي العفريت يؤدي عمله بالشكل الذى يعود عليه بالنفع لأنه فاهم ما يسمى في عرف "الحرامية" بقواعد اللعبة (أي تحراميت).. ولا مانع أن يكون الحرامى «محترف» فى عمله بل «مخلص» فى أدائه ولو ظاهريا على الاقل للتمويه.. لكن كل ذلك لا يمنع أنه حرامى عفريت متمرس في فنون الخداع والتلون كالحرباء ،وتجده في هذا الطريق وفي تعامله في إطار المسؤولية يرفع من قيمة الإنتهازيين، والخونة، والراشين، والمرتشين واللصوص والمنافقين وأصحاب الوجوه العديدة والمتقلبة من الحميرليجعل منهم حطب نار سيشعله متى كان في حاجة اليها.. لأنه يجيد فن السرقة والنهب بكل احترافية وإثقان ،ولايبقي وسيلة وحيلة من السرقة والنهب الا وجربها مع المرتزقة والبطانة المنافقة التي تحوم حوله كل يوم كالذباب.. أو بمعنى بسيط، ينجح فى عمله حتى يتمكن من إتمام مهمته وتجريب حيله فى السرقة والنهب، وكثيرا ما كان يقيم الحفلات والولائم لأصحاب النفوذ من رؤسائه والمسؤولين الكبار.. فيستغل ذكاءه ودهاءه لإخفاء معالم جريمته بدم باردة، ولايدخل مجالا بدون ان يعرف مسبقا كيف يخرج منه.. بحيث يصبح أمام الجميع ذلك البرىء الطيب الذي "يفيد ويستفيد"ويقضي المصالح الشخصية للجميع ولو على حساب المصلحة العامة ،والمصلحة الخاصة دائما هي باب من ابواب الفساد العريض كما تعلمون. فإذا علا صوت "الانا" وتضخمت، ذهب العطف على الصغير ،وذهب الاحساس بالشيخ الكبيروالضعيف والمريض، ويموت الضميرويتزوج بالشيطان والويل يومئذ للمال العام..حتى إذا تبث تورطه في نهب اوسرقة، تجده قد ورط معه قطيع من الحمير قوامه 1000 حماراو أكثر من ضحاياه الذين استغلهم فى تحقيق مآربه وأهدافه وزيادة حصيلته من السرقة والنهب في غفلة منهم. ولا غرابة ان نسمع أن امثال هؤلاء قد عجزت لجن المراقبة وحتى المحاكم عن إدانتهم بسبب عدد رؤوس الحمير الكثيرة التي ورطوها معهم باستخدم قاعدة"يفيد ويستفيد" التي عبرها يعطي الحرامي العفريت لقطيع عريض من الحمير الاغبياء السدج ما يكفي من علف الشعيرالحرام ليلف الحبل حول اعناقهم جميعا، وبسبب علاقات النفوذ التي نسجها مع اصحاب الحال عبر الولائم والحفلات البادخة الكثيرة..وهذا ما لايقوم به الحمار الذي إذا سقط في الفخ يسقط به لوحده لأنه ببساطة حماركان يأكل بوحده بغباء مفرط دون ان يورط غيره من الحميربحبل يشركهم معه جميعا..بينما الحرامي بسبب عدد الحمير الذي ورطهم،وبسبب علاقات النفوذ مع المسؤولين الكبار، قد يقلب الطاولة على من نعته بالاصبع، خاصة اذا كان بالمفرد في زمن الضحايا الفرديين وما اكثرهم اليوم بيننا.. فعوض مواجهة الحرامي العفريت الذي احتمى بقطيع عريض من الحميركدروع بشرية، ولأنه حرامي كان ايضا يسرق وهو مؤطر بشرعية قانونية والتي حقيقتها الاحتيال على القانون لزيادة ارباحه الخاصة من النهب، وبما أنه نسج علاقات كثيرة مع اصحاب الحال، يتم قلب الطاولة على الصالح المصلح المفرد الذي نعته بالاصبع بنسج مكيدة ضدية تجيز قطع اصبعه الذي اشارالى فساده، لينسل الحرامي من الورطة مثلما تنسل الشعرة من العجين ويبقى بدون عقاب .وهذا ما يحدث في الغالب لينجو الحرامية من المتابعات ويربحون ما يسمونه ب"اللعبة"، وبهذه الطريقة ايضا تم القضاء على عدد كبير لايستهان به من الرجال الشرفاء في البلد.وبهذه الطريقة ايضا تطرد العملة الزائفة العملة الصحيحة في سوق النزاهة والاخلاص والشفافية والتقدم في البلاد. والمحصلة النهائية لهذه العملية الفظيعة جدا ياسادةهي، انه بسبب هذين النوعين من الفاسدين المفسدين السالف ذكرهما اللذين يسيئات لانفسهما وللمؤسسات والدولة والمجتمع، وامام غياب الحكامة الجيدة والنزيهة والقوية ،سلك الفساد في بلدنا طريق التقليد الأعمى ،ومع غياب اوسكوت غير مفهوم للشرفاء الصالحين والمصلحين ووقوفهم بعيدا على التل دون مقارعة، ظن اغلب الناس ان الفاسدين على صواب وأصبح جلهم يُقلدون المفسد، بدل أن يُحاربوه، أو على الأقل يفضحوه في وسائل اعلام مختلفة ويبلغون عنه، وذلك أضعف الإيمان.والأخطر من كل هذا، هو أن "الباندي الحرامي الفاسد المفسد"الذي تنمر بالفساد ،ورغم ان لاشرف له ولاناموس، تراه قد تحوّل إلى بطل يتهافت على مصافحته الناس بالطرقات والشوارع والمقاهي والمساجد، بشكل يوحي احيانا بأن حتى العامة من الناس بسبب سيادة الجهل والامية الفظيعة لايرغبون في القضاء فعلا على الفساد، بقدرما يسعون الى انتزاع نصيبهم من كعكته مادام ان ذلك سيؤمن لبعضهم لقمة سهلة لوقت من الزمن قد يطول او يقصر وبأقل التكاليف..غريب امرنا في هذا البلد الكريم الذي انقلبت فيه الاية.. ترى متى سيعرف الناس جميعا ان انتشار الفسادمؤذن بخراب العمران كما قال العلامة ابن خلدون منذ قرون؟..