تعد معجزة الاسراء و المعراج آية من آيات الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ورحلة لم يسبق لبشر أن قام بها، أكرم الله عز وجل بها نبيَّه محمد صلى الله عليه وسلم,و هي الرحلة التي أرى اللهُ يها النبيَّ صلى الله عليه وسلم عجائب آياته الكبرى، ومنحه فيها عطاءً رُوحيًّا عظيمًا؛ وذلك تثبيتًا لفؤاده، ليتمكَّن من إتمام مسيرته في دعوة الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولتكون تمحيصًا من الله للمؤمنين، وتمييزًا للصادقين منهم... أمَّا الإسراء فهي تلك الرحلة الأرضيَّة وذلك الانتقال العجيب، بالقياس إلى مألوف البشر، الذي تمَّ بقُدْرَة الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال، يقول تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. وأمَّا المعراج فهو الرحلة السماويَّة والارتفاع والارتقاء من عالم الأرض إلى عالم السماء، حيث سدرة المنتهى، ثم اللقاء بجبار السماوات والأرض سبحانه ثم الرجوع بعد ذلك إلى المسجد الحرام، يقول تعالى: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13-18]. وقد حدثت هاتان الرحلتان في ليلة واحدة، وكان زمنها قبل الهجرة بسَنَةٍ. و كانتا بالجسد والروح معا واستدل العلماء على ذلك بقول رب العزة سبحانه: (سبحان الذي أسرى بعبده )[الإسراء:1]. والتسبيح هو تنزيه الله عن النقص والعجز وهذه لا يتأتى إلا بالعظائم ولو كان الأمر مناما لما كان مستعظما ثم بقوله تعالى : بعبده والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح . و قد ورد المعراج في صحيح السنة , و أصح أحاديثه ما رواه الشيخان و نقله القاضي عياض في "شفائه"عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "أُتيت بالبراق - وهي الدابة التي كانت تحُمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها في منتهى طرفها - ف،ركبت حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلفة التي تربط بها الأنبياء فوجد فيه إبراهيم الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمُعوا له، فصلى بهم . ثم أُتي بثلاثة آنية، إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء . قال : فقال رسول الله : فسمعت قائلا يقول حين عُرضت علي : إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته، وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمته، وإن أخذ اللبن هُدي وهديت أمته . قال : فأخذت إناء اللبن، فشربت منه، فقال لي جبريل : هُديت وهديت أمتك يا محمد .ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل, فقيل من أنت ؟قال : جبريل , قيل : ومن معك ؟ قال : محمد , قيل : و قد بعث إليه ؟قال : قد بعث إليه , ففتح لنا فإذا آدم فرحب بي و دعا لي بخير . ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من أنت ؟قال : جبريل , قيل : ومن معك ؟ قال : محمد , قيل : و قد بعث أليه ؟قال : قد بعث إليه , ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة : يحيى و عيسى أبن مريم , فرحبا بي و دعوا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل الأول , ففتح لنا , فإذا أنا بيوسف , و غدا هو شطر الحسن , فرحب بي و دعا لي بخير . ثم عرج بي إلى السماء الرابعة , فذكر مثله , فإذا أنا بإدريس فرحب بي و دعا لي بخير قال تعالى في سورة مريم : *(و رفعناه مكانا عليل )مريم 57. ثم عرج بي إلى السماء الخامسة, فذكر مثله , فإذا إنا بهارون فرحب بي و دعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء السادسة, فذكر مثله, فإذا أنا بموسى فرحب بي و دعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء السابعة, فذكر مثله, فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور, و إذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه. ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا أوراقها ك أذيال الفيلة , و إذا ثمرها كالقلال (ج قلة : وعاء)فلما غشيها من أمر ربي ما غشيها تغيرت , فما احد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها , فأوحى الله إلي ما أوحى , ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم و ليلة . فنزلت إلى موسى فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة , قال : ارجع إلى ربك فسله التخفيف , فإن أمتك لا يطيقون ذلك , فإني قد بلوت بني إسرائيل قبلك وخسرتهم ,قال : فرجعت إلى ربي و قلت له : خفف عن أمتي فحط عنها خمسا فرجعت إلى موسى فقلت : حط عني خمسا , قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فسله التخفيف ؟ قال : فلم أزل أرجع بين ربي تعالى و بين موسى حتى قال سبحانه : يا محمد غنهن خمس صلوات كل يوم وليلة , لكل صلاة عشر , فذلك خمسون صلاة , فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة , و من هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا , و من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب له شيئا , و من هم بسيئة فعملها كتبت له سيئة واحدة , قال : فنزلت إلى فأخبرته فقال : ارجع إلى ربك فسله التخفيف ,قلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه"(1) ثم رجع الرسول صلى الله عليه و سلم من ليلته, فلما أصبح غدا إلى نادي قريش, فجاء إليه أبو جهل فحدثه بما جرى , فنادى كفار قريش , فأخبرهم عليه الصلاة و السلام بما وقع , فاستغربوا و وقفوا تعجبا و إنكارا , و سعى رجال إلى أبي بكر فقال : إن كان قد قال ذلك فقد صدق, و قد قام بعضهم بامتحانه ,حيث سألوه أن يصف لهم بيت المقدس , فاطرق رأسه إلى الأرض لأنه لم ير علامة ولا إشارة بالليل , فأوحى الله إلى جبريل أن أهبط إلى بيت المقدس , و يبسطه بين يدي حبيب الله , فجعل ينظر إليه و يصفه مكانا مكانا , حتى أطرقوا جميعا إلى الأرض ...و أسلم في ذلك اليوم الكثير من الرجال , وقد أقبل صلى الله عليه و سلم يحدث أحابه بما رآه في السموات و العرش من العجائب , وما رآه في الجنة من النعيم الدائم لأهل محبته, و ما رآه في النار و الجحيم من الحميم و العذاب الأليم لأعدائه... و مما رأى الحبيب حسب رواية ابن عباس (رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجالا وأقواما ترضخ رؤوسهم بالحجارة قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة)),((ورأى النبي عليه الصلاة والسلام رجالا يأكلون لحما نتنا خبيثا وبين أيديهم اللحم الطيب النضج قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء رجال من أمتك تكون عند أحدهم المرأة بالحلال فيدعها ويبيت عند امرأة خبيثة حتى يصبح) قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم)), ((ورأى النبي عليه الصلاة والسلام نساءا معلقات من أثدائهن قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللواتي يدخلن على أزواجهن من ليس من أولادهن)).... هكذا كانت رحلة الإسراء والمعراج، وفي هذه الرحلة العظيمة دروس وعبر : 1) أن الإيمان برحلة الإسراء والمعراج جزء من عقيدة المسلم ، والإيمان بالمعجزة جزء من العقيدة الإسلامية، وهو امتحان لإيمان المؤمنين وارتياب المنافقين . ولهذا ارتد من ارتد عن الدين لضعف إيمانهم وقلة يقينهم، وفاز بالصدق أبو بكر رضي الله عنه فسمي صديقاً، لإيمانه وتصديقه الجازم بمعجزة الإسراء والمعراج، وكذلك الصحابة الكرام ممن امتحن الله قلوبهم بالتقوى، ففازوا بالإيمان الراسخ والعقيدة الثابتة . 2) لطف الله تعالى بعباده، ونصرته لأوليائه والدعاة إلى سبيله، فقد جاءت رحلة الإسراء والمعراج بعد أن اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأذى؛ تكريماً من الله تعالى لهم، وتجديداً لعزيمتهم وثباتهم على الدين، وثقتهم بالله رب العالمين. 3) أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي كان بيد بني إسرائيل فيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم سيرث قيادة الأمة، وسترث أمته هذه البلاد، وفي عروج الله بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى، ورفعه مكانا عليا فوق جميع البشر، بشارة بأن الله سيرفع كلمته ويظهر دينه على الدين كله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )سورة الصف(33) 4) أن في صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء جميعا ، واقتدائهم به وهم في عالم البرزخ ، إشارة إلى أنهم لو كانوا أحياء في الدنيا لم يكن في وسعهم إلا إتباعه ... 5) أن في هذه الحادثة دلالة على عظم شأن الصلاة، فقد اختصها الله من بين العبادات بأن تفرض في السماء عندما كلم رسوله صلى الله عليه وسلم بدون واسطة.و لقد شرعت الصلاة لتكون معراجا ترقى بالناس كلما تدنت بهم شهوات النفوس وأعراض الدنيا، وأكثر الناس اليوم لا يصلون الصلوات التي شرعها الله، فصلاتهم لا حياة فيها ولا روح، إنما هي مجرد حركات جوفاء، لأن علامة صدق الصلاة أن تعصم صاحبها من الوقوع في الخطايا، وأن تخجله من الاستمرار والبقاء عليها إن هو ألم بشيء منها يقول الله عز وجل : ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) العنكبوت/45 . وإن من لطف الله تعالى بعباده أن خفف عنهم الخمسين صلاة على يد محمد صلى الله عليه وسلم وبمشورة موسى عليه السلام حتى بلغت خمس صلوات في اليوم والليلة، 6) أن في هذه الرحلة تذكير للمسلمين بالأمانة العظيمة ، ألا وهي أرض الأقصى المباركة التي ربطها الله برباط العقيدة ، فهي أمانة في أعناق المسلمين جميعاً، نسأل الله أن يطهرها من اليهود الغاصبين و كانت حادثة الإسراء والمعراج قبل هجرة النبي إلى المدينة، وقد اختلف المؤرخون في تحديد السنة والشهر الذي وقعت فيه هذه المعجزة العظيمة، فقيل سنة خمس من البعثة ، وقيل في رجب من السنة العاشرة ، وقيل في رمضان من السنة الثانية عشرة ، وقيل في محرم أو ربيع الأول من السنة الثالثة عشرة ، وليس على واحد من هذه الأقوال دليل صحيح يعتمد عليه , و ليس في ليلة الإسراء فضل خاص، فلا تخص بقيام ولا احتفال، ولا بغير ذلك؛ فإن هذا كله من البدع، وكل بدعة ضلالة.و قد ارتكب الذين يحتفلون في ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر خطأ كبيرا ، فلو كان ذلك خيرًا لسبقنا إليه الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان . هامش: (1)العلامة محمد الخضري, نور اليقين في سيرة سيد المرسلين, ص 61,62,دار العقيدة