النموذج الأول : تحليل نص فلسفي ( مقتطف من الامتحان الموحد، الدورة العادية 2011 ، الشعبة العلمية والتقنية ) " إن الحادثة والفكرة تتعاونان في البحث التجريبي، فالحادثة التي نلاحظها بوضوح قليل أو كثير، توحي بفكرة لتعليلها، وهذه الفكرة يطلب العالم إلى التجربة أن تؤيدها، ولكن على العالم، أن يكون مستعدا طوال التجريب، لأن يدع فرضيته أو لأن يعدلها وفقا لما تقتضيه الوقائع، فالبحث العلمي إنما هو إذن محاورة بين الفكر والطبيعة، الطبيعة توقظ فينا حب المعرفةّ، فنطرح عليها أسئلة، وأجوبتها تفرض على الحوار سيرا غير متوقع، إذ تحملنا على طرح أسئلة جديدة، نجيب عنها بإيحاء أفكار جديدة، وهذا دواليك إلى غير نهاية ." حلل النص وناقشه إذا كان الإنسان كائنا عاقلا، حرا ومريدا، فهو أيضا كائن عارف ومنتج للمعرفة، غير أن معرفته هذه تتأرجح بين معرفة عامية ومعرفة علمية، ولعل هذه الأخيرة هي أكثر ما يحضر في النشاط الإنساني وسلوكاته، لكن هذه المعرفة العلمية باعتبارها أرقى وأسمى أشكال المعرفة الإنسانية، تثير مجموعة من الإشكاليات على رأسها تلك العلاقة التي يمكن أن تربط بين النظرية والتجربة، إذ لا يمكن أن تقوم الأولى إلا بحضور الثانية، والثانية يستلزم تأسيسها وجود الأولى. ولعل هذا الأمر هو ما يذهب إليه مضمون النص- الموضوع بين أيدينا- والذي يحاول أن يعالج ويكشف في نفس الوقت عن العلاقة الكامنة بين المعطيات التجريبية ( الحادثة )، والنظرية العلمية ( الفكرة ) ودورهما في تشكيل المعرفة العلمية. من هنا – ونحن نحاول أن نعرض لهذه المسألة بالتحليل والمناقشة – من هنا نتساءل: كيف يمكن تأسيس المعرفة العلمية وبناءها؟ هل انطلاقا مما تمدنا به النظرية العلمية باعتىبارها فكرة مؤسسة على مبادئ وفروض وقوانين عقلية منظمة، أم ّأن للواقعة التجريبية باعتبارها حوادث وخبرات معطاة لنا من أرض الواقع دورها الريادي في هذا الشأن؟ أم أن هذه المعرفة لا تقوم لها قائمة إلا بذلك الحوار الجدلي بين العقل والواقع؟. يقوم النص على بناء مفاهيمي تنتظم حوله أفكار النص وحججه، ويحيل مباشرة على المجال العلمي: إذ ينطلق من الحادثة باعتبارها تلك المعرفة والخبرات التي يكونها الإنسان في علاقاته المباشرة مع الواقع ومع الطبيعة على وجه التحديد، باعتبارها موضوع المعرفة القابلة للاستكشاف، هذه الحادثة تتداخل مع الفكرة التي تحيلنا بشكل أو بآخر على كل ما يرتبط بالعقل من معطيات تأملية تجعلنا نعتقد في هذه الفكرة أنها تلك النظرية التي تقدم إنشاء للفكر يربط النتائج بالمبادئ، وهو إنشاء معزو ل عن الواقع ومناقض للتجربة أو الحادثة كما يسميها النص، باعتبار أن هذه النظرية / الفكرة هي مجموع القوانين التي تؤسس نسقا متكاملا في مجال معين... إن الحادثة ( الواقعة التجريبية )- هنا – تتعاون مع الفكرة ( العقل ) في البحث العلمي التجريبي، فهي تضم في ذاتها أولا سببا لتفسيرها وتعليلها يكون بطبيعة الحال هو تلك الفكرة التي تمثل فرضية يستلهمها العالم قصد إخضاعها للإختبار، الذي يمكن أن يؤيدها أو يكذبها. إن هذه العملية تقتضي من العالم ذاته أن يكون على استعداد طيلة مرحلة التجريب تلك على جعل الفرضية قابلة للتعديل أو الإلغاء، وفقا لما تمليه الوقائع، وبهذا يبقى البحث العلمي باعتباره بحثا تجريبيا في جدال مستمر بين معطيات التجربة والفرضية. إنه بمعنى آخر حوار بين الفكر والطبيعة، فالتطلع إلى المعرفة وحب اكتشافها يجعل العالم يطرح أسئلة مستمرة، تقتضي الاجابة عنها الدخول في حوار ، وهذه الاجابة التجريبية ذاتها تطرح أسئلة جديدة، وهكذا إلى غير نهاية... مما يؤكد بالملموس على أن الحوار بين التجربة والنظرية يظل منفتحا على ممكنات غير متوقعة،. هكذا إذن يحاول تصور صاحب النص أن يكشف عن العلاقة القائمة بين النظرية والتجربة وهي علاقة تفاعلية تلازمية تتجسد على مستوى ذلك الحوار التكاملي بين الفكر والطبيعة، والذي لابد منه لتأسيس المعرفة العلمية. إن هذا الطرح يبني قوته الحجاجية انطلاقا من اعتماده على آلية التقابل، بحيث نجد النص ينقسم في مجمله إلى طرفين متقابلين، أولها يحيل على الحقل التجريبي ( الحادثة، التجريب، الوقائع، الطبيعة...) في حين يحيل ثانيهما على المجال النظري ( الفكرة الفرضية الفكر...)، وهذه الإحالة التقابلية فيها من الائتلاف أكثر مما قد يكون فيها من الاختلاف، على اعتبار أنها توضح إلى أي مدى يتفاعل المعطى التجريبي مع الفكر النظري، وهو التوضيح الذي يجعلنا نستشف بأن النص في العمق إنما يحاول التوفيق بين نزعتين متعارضتين هما النزعة التجريبية والنزعة العقلانية، ولعل هذا يتأكد بجلاء عبر الإثباتات الفكرية الحاضرة بقوة في النص، ( إن الحادثة والفكرة تتعاونان في البحث التجريبي، الفكرة يطلب العالم إلى التجربة أن تؤيدها، البحث العلمي هو محاورة بين الفكر والطبيعة...). إن هذه القوة الاقناعية تعطي لهذا التصور حول علاقة النظرية بالتجربة قيمة كبرى جدا من الناحية العلمية، فبمراهنته على حوار العقل والواقع، كان له الأثر الايجابي الكبير على التطور العلمي. ولعل ما برز على الساحة العلمية من تصورات معرفية وفلسفية تزكي وتكشف بوضوح عن هذه المسألة، فهذا " غاستون باشلار " العالم الابستيمولوجي الفرنسي، يرى بأنه لا يمكن فهم عمل العلم وإدراك قيمته الفلسفية إلا في ضوء فهم العلاقة الجدلية بين العقل والواقع التجريبي، وهذا بالتأكيد ما يجعل العقلانية العلمية المعاصرة بالخصوص تقوم على ضرورة امتلاك يقين مزدوج، يجعل الواقع خاضعا لما هو عقلي، مثلما يجعل ما هو عقلي مستخلصا من صميم ما هو تجريبي واقعي، ومنه فلا يمكن الحديث عن عقلانية فارغة من أي محتوى تجريبي، كما لا يمكن الحديث عن أي اختبارية ( تجريبية ) غير مسترشدة بما هو عقلي. وبناء عليه فتأسيس العلوم مشروط بذلك الحوار الجدلي بين العقل والواقع. إنه المسار نفسه الذي سار في منحاه الفيلسوف الألماني " إيمانويل كانط " بتأكيده على أن التجربة وحدها تظل قاصرة على بلوغ المعرفة العلمية، كما أن العقل وحده لا يمكنه بناء المعرفة العلمية، وبالتالي لابد من تكاثف جهود كل من العقل والتجربة في بناء النظرية العلمية، فالمعرفة العقلية بدون معرفة حسية تبقى عمياء، والمعرفة الحسية بدون معرفة عقلية تبقى جوفاء. بهذا تكون هذه التصورات المتوافقة مع ما ذهب إليه النص من حيث تأكيده على تداخل النظري بالتجريبي، قد تجاوزت أصحاب النزعة الاختبارية التي يمثلها بالدرجة الأولى " كلود برنار " الذي ينتصر للأطروحة التجريبية التي ترى بأن البحث العلمي يكتفي بالإصغاء إلى الطبيعة واستقراء معطياتها بغاية استخراج القوانين، إذ هكذا يعتبر بأن أساس بناء المفاهيم العلمية هو التجربة، واضعا في هذا الشأن مجموعة من الشروط المنهجية والنظرية الكفيلة ببلوغ الحقيقة العلمية، والتي لابد للعالم التجريبي أن يكون ملما بها، فالتجربة عنده هي مجموعة من الخطوات المنهجية القائمة على الملاحظة، الفرضية، والتجريب، والتي إذا اشتغل العالم بمقتضاها توصل إلى معرفة بالقوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية. إن هذا ما أكده أيضا العالم الفزيائي الفرنسي " بيير دوهييم " حينما اعتبر بأن الاتفاق مع التجربة هو الذي يشكل بالنسبة للنظرية الفيزيائية المعيار الوحيد للحقيقة، فعملية التجريب هي وحدها الكفيلة بإبراز صلاحية ومصداقية النظرية. إلا أن هذا الموقف التجريبي الذي لا يقبل إلا بنتائج العلوم التجريبية، لم يكن بالموقف المقبول لدى أصحاب النزعة العقلانية، وبالخصوص لدى " ألبير أنشتاين " الذي أكد على الحضور القوي للتجربة لم يعد يمثل منبع النظرية، ولذلك ينبغي الاعتراف بإبداعية العقل العلمي الرياضي القادر على فهم الوقائع بطريقة جديدة انطلاقا من الاستنباط المنطقي السليم، الذي يشكل أساس النظرية المعاصرة، لتبقى التجربة بذلك تابعة للعقل، والعقل هو أساس المعرفة العلمية. إنها الرؤية ذاتها التي يقترب منها العالم الرياضي الفرنسي " روني طوم " الذي يذهب إلى القول بأن التجريب العلمي ليس هو المقوم الوحيد لتفسير الظواهر، إذ لابد من استحضار عنصر الخيال وإدماجه في عملية التجريب، بمعنى إكمال الواقعب بالخيالي، لأن هذه القفزة نحو الخيال هي أساس عملية أو تجربة ذهنية تمنح للواقع غنى. هكذا إذن تفضي بنا نتائج تحليلنا ومناقشتنا إلى القول بأن الرؤى اختلفت والتصورات تباينت حول طبيعة العلاقة الممكنة بين النظرية والتجربة، وفي ظل تغليب منطق العقل على التجربة أو تغليب الواقع على العقل واعتباره أساس المعرفة العلمية، لكن محدودية هذا الواقع وإعادة التحقق من نظريات العقل يفرضان أن تقوم على يقين مزدوج أساسه ذلك الحوار الجدلي بين ما هو عقلي وما هو تجريبي، فلا وجود لنظرية علمية خالصة تتعالى عن الواقع، كما لا وجود لتجربة علمية مستقلة عن العقل. الهوامش: كتاب رحاب الفلسفة الشعبة الأدبية. كتاب مباهج الفلسفة الشعبة العلمية. سلسلة المستقبل للأستاذ إدريس زروقي. ذ . محمد الغرباوي [email protected]