في حي شعبي من أخطر أحياء الدارالبيضاء العظيمة، استطاعت راضية أن تصنع لنفسها شخصية لا تختلف كثيرا عن قاطني الحي حتى لا يكتشف أحد غُربتها عن المكان، وعدم انتسابها له.. وإن تبَدّى للناظر إليها بعضٌ من غربتها فهو لا يكاد يجزم أنها ليست من بنات المدينة المترامية الأطراف. راضية لا تُحدِّق كثيرا، ولا تَسْتغرب شيئا، ولا تُبْدي تدَمُّرا أو امتعاضا من كل السلوكيات على اختلافها وغرابتها. ذات جمعة من أواخر شهر يناير، اضطرت راضية للبقاء داخل الحرم الجامعي حتى وقت متأخر على غير المعتاد، فقد كانت دائما حريصة على الرحيل قبل العصر أو بعده بقليل. ثلاثون دقيقة بعد آخر ساعة من ساعات ما بعد الزوال، انتهى الملتقى وغادر الجمع لتجد نفسها وحيدة في طريق طويل.. على يمينها مساحة شاسعة خالية إلاَّ من بعض الكلاب، وعلى شمالها تَجَمُّع سكني كانت تظن أنها ألفته وأنه صار يعرفها.. تُعانق محفظتها وتلتفت خلسة تارة يمينا وتارة شمالا، تُحس وراءها خطى سريعة وتسمع بداخلها حوارات متقطعة: يتَعَقَّبُني..؟ لا، يُخيل إليَّ ذلك يتبَعني..؟ لا، ربما هو الآخر ماض في طريقه إلى الخلاص يُسرع ليدركني..؟ لا.. لا أعتقد ذلك، لعله أيضا ينشد الخروج من هذه المتاهة خطوات سريعة وكأنها ركضٌ، لكنها ليست كذلك فقط هو نفَسٌ يتأرجح بصعوبة بين الحلق والشفتين. أخيرا تبلغ راضية حافة الطريق، مصابيح متفرقة وبعض الحركات الآدمية، وتَواجُدٌ مرئي بالعين المجردة. انقطع وقع الخطوات التي كانت خلفها، لم تلتفت لترى من كان، ولِم تَوَقَّف فجأة؟ وكيف انصهر في الظلام؟ لعله فشل في الوصول إليها.. والأرجح أنَّها خطوات تسكن ذاك المكان ولا تَبرحه، إنها خطوات المساء، تلك المسافة الفاصلة بين تعاقب الليل والنهار، تتَرصَّد المتأخر وتكتُم على أنفاس الخائف.. متأكدة راضية أنها خطوات ذات وقع متفاوت الإيقاع.. وأنها توقفت حين اكتمل الطريق المظلم وعرجت هي على الشارع المعاكس له. لكنها لم تفكر في الأمر طويلا ولم تُعره كل انتباهها. إنها تقف أمام عائق آخر.. بعد الساعة السادسة مساء تتوقف الحافلات عن خدمة هذا الحي، أخبرها أحدهم أن سيارات الأجرة الكبرى تُوجد على مسافة قريبة، وبتلقائية عذبة تأخذ محفظتها مرة أخرى على صدرها وكأنها تستمد منها إحساسا معينا، لا يوجد داخل المحفظة غير كتب وبضع ورقات بيضاء، وقلمين، قلمٌ أزرق وآخر أحمر، ومنديل أخضر لُفَّ حول ملعقة صغيرة وسكين. يداهمها وكأنه الموت ينتهك عمرها ويشق بطنها.. لم تعرف له مصدرا ولا كيف وضعته الأقدار فجأة أمامها، فزِعة تمُد يدها داخل محفظتها تنحرف بعيدا عنه يحاصرها، تعود للاتجاه الآخر يميل معها. فَقَدت راضية كل الأحاسيس التي تربطها بعالمها وكأنها وُجدت في هذه الحياة وحدها، تهرب لأقرب مقهى لتجد نفسها وسط زمرة من الذئاب، تصدَّع الكون من حولها إنها مقهى للقمار. إنارة ضعيفة تكاد تنعدم، ورائحة صدئة مثقلة بالأوساخ والعرق والدخان.. تمتد إليها الأيادي من كل اتجاه، تخترق جسدها الأعين الثملة المثقلة بالعفن والتعب والأرق، تستبيحها الكلمات.. صار الفضاء مغلقا، تحوَّل الباب الذي دخلت عبره جدارا منيعا، تُلوِّح راضية بالسكين في كل اتجاه، وبسرعة الضوء تعاقبت على ذاكرتها بعض الصور والمحطات والأحداث الماضية، أحست وكان أحلامها تتفتت كقطع فخار على هامش الحياة، وأن ابتسامتها تتكسر على لسانها كزجاج يمزق الكلمات، ويحولها أشلاء لا معنى لها.. امتلأت عيونها بالدماء. تغادر راضية في صمت.. كان اللون الأحمر آخر ما رأته أعينها، وصدى وقوع ملعقتها على الإسفلت آخر صوت تناهى لمسامعها. ذ مينة قسيري