الكاميرا الخفية شأنها شان الهامبرغر والكوك كانت ولا تزال اختراعاً أميركياً بامتياز. وكان الهدف الأكثر بروزاً في ظهورها في فترة الخمسينيات هو النقد الذي وجه لثقافة الجماهير وهو السلبية المزعومة الكامنة في الحياة الفكرية الحديثة. فقد ترافقت في بداية الستينيات دعوات المشاركة في الشأن العام، هذه الدعوات التي باتت حاجة فكرية ملحة مع دعوة التلفزيون للمشاركة الجماهيرية في وسائل الإعلام، ناهيك عن أفول العصر الذهبي للدراما التلفزيونية. وقد ترافق ذلك كله مع تمهيد الطريق أمام الكاميرا الخفية التي بدأت مع برنامج غاري مور شو The Garry more Show. لقد حاولت الكاميرا الخفية أن تجعل من نفسها المرآة الصادقة للجماهير. فقد أرادت أن تقبض على البشر وهم في حالة تلبس مع ذواتهم، وكانت تلك هي الوصفة الجديدة والناجعة لمتطلبات التلفزيون. وهنا بدأت الكاميرا الخفية منهجاً زمنياً لتقديم علاقة محلية جديدة مع الفرد، هذا في القرن الذي لم يكن يستطيع فيه البشر أن يحددوا متطلبات الإعلام بدقة كافية.. لقد أسست الكاميرا الخفية لنزعة تلصص على الآخرين أو ما يعرف بعقدة توم البصاص Peeping Tom. وساهمت في تكوين حالة ما عرف بالاستمناء البصري. وفي الوقت الذي ظهر فيه تأثير حالة القبض على البشر وهم متلبسون في أفعالهم على أنه تأثير مرح كان فحوى الرسالة المرافقة واضحاً: «لا يظنن أحد بأن أفعاله وأحاديثه وردات فعله عامة كانت أم خاصة بعيدة عنا وستمر مرور الكرام». لقد استخدمت وسائل الإعلام الكاميرا الخفية كاسلوب لإقناع المشاهد الفرد بأن القبض عليه في حالة تلبس مع ذاته هي اللحظة الأغلى في حياته «النعمة الإلهية». فهي تقيم (للفرد) الضحية احتفالاً مؤقتاً، ونجومية، إذ تم انتخابه من بين ملايين البشر. هذه اللحظة التي تحفر عميقاً في ذهنه على أنه مميز، وهذا ما تشترك به الكاميرا كأداة (تقنية) باتت في متناول يده متى يشاء، وهنا يتكون لدى المرء شعور بأن الدور الذي يجب البحث عنه هو ذاته الذي تلعبه الكاميرا الخفية. وهذا ما يشكل نقطة الخطورة في الواقع، إذ يبدأ الفرد العادي في البحث له عن دور ويصبح المراقبَ مراقِباً. وهذا ما تجسده كلمات فنت: «يمكن للجميع أن يلعبوا دور الكاميرا الخفية دون أن يلمسوا الكاميرا.. في واقع الأمر ما عليك إلا أن تراقب الناس وهم يقومون بالأشياء الصغيرة». وهذا هو فحوى الرسالة الثانية التي تقدمها الكاميرا الخفية. فعندما ابتعدت وسائل الإعلام عن لعب دور الرقيب نصّبت مكانها الفرد المشاهد. أما بالنسبة للمشاهد في البيت فإن متعة الكاميرا الخفية تكمن في الصلة المرئية الواقعة بين فعلتي التلصص والمراقبة: متعة مراقبة البشر «الضحايا» دون أية مجازفة تذكر، ومتعة مراقبة الناس وهم على وشك مخالفة النواميس المجتمعية. لكن هذه المتعة تستمد أصولها أساساً من معرفة الراصد للموقف بأن الأمور لن تفلت من الزمام، وبأن المخالفات والاحتجاجات سيتم استيعابها وذلك بكشف هوية الموقف المازح في ظاهره، المهين في باطنه. وهنا يقف المشاهد الموقف الوسط، وهو أن يغفر للضحايا الذين تم ضبطهم متلبسين والذين تغير مزاجهم من حالة عداء شديد فرضت عليهم فرضاً، إلى حالة امتنان للذين أنقذوهم من هذا الوضع المحرج، أي أن الضحية شكرت مَنٍ ورطها ومن أنقذها في الوقت ذاته. ويأتي العامل التعليمي الذي يسعى أساساً للكشف عن ردود أفعال البشر اتجاه التكنولوجيا. فمن الملاحظ أن معظم المواقف التي يتم تصويرها تدور إما في أكشاك الهاتف وإما في السيارة أو الحافلات الخ.. وكلما كانت الضحية متقدمة في السن كانت الاستجابة سخيفة ومضحكة. أما ردات الفعل الأكثر جاذبية، فتكون للأصغر سناً الذين يظهرون تفهماً أكبر للتكنولوجيا. إن مقولة الكاميرا الخفية هي أن التكنولوجيا خيّرة بحد ذاتها شريطة أن نعد أنفسنا لتطوير الموقف الصحيح تجاهها وتكييف أنفسنا لشروطها (أي أن نكون ضحاياها). بات من السهل الآن أن نعرف كيف أظهرت الكاميرا الخفية قدرة التلفزيون على توريط جمهوره بالمحيط التقني وذلك عبر حشد سلسلة هائلة من المتع بعضها كان معروفاً والبعض الآخر كان مفاجئاً. كما ذهبت استخدامات هذه الإمكانية خارج حدود العرض ذاته. فلقد أخذت الكاميرا الخفية تمرر الذخيرة المحلية من الأفكار والمقولات الجاهزة، من أجل التعامل العدائي مع مناوشات الحياة اليومية الاجتماعية بالإضافة إلى التعامل مع ذخيرة النكات الدارجة. فالعديد من اللحظات الحرجة تم تفسيرها من خلال سلسلة الكاميرا الخفية. هذا ما كان يحدث في الغرب عموماً وفي الولاياتالمتحدة الأميركية على وجه الخصوص. ولكن ماذا عن الكاميرا الخفية في بلادنا وفي تلفزتنا المحترمة . وكجميع الأشياء المستوردة من عند «الآخر» باتت الكاميرا الخفية نسخة مشوهة إلى حد بعيد عن الأصل. ونحن لسنا بصدد القول إن الكاميرا الخفية في الغرب كانت شيئاً رائعاً، لكن رغم كل شيء تبقى الكاميرا الخفية في الغرب نتاجاً فكرياً وثقافياً للمجتمعات الغربية. فهي تعبير عن مدى تطور هذه المجتمعات في استنباط أساليب وأفكار جديدة ربما كانت على المدى البعيد مخربة لكنها بالتأكيد ممتعة على المدى القريب، فهناك الكثير من المواقف التي أعدت أصلاً لمداعبة الفرد وهي بالتأكيد ليست فظة، وبالتأكيد لا ترمي إلى مس مشاعر الفرد بشكل مباشر وهمجي كما يحدث في مجتمعاتنا التي، وللأسف الشديد، أفرزت مهرجين يكاد دورهم ينحصر في إيذاء المشاعر الفردية والعامة (المغيبة أصلاً). وإذا كان القيمون على برامج الكاميرا الخفية في الغرب هم من الإعلاميين الناجحين والمرموقين (ولا يبرر هذا ما يقومون به) فإن من يدير برامج الكاميرا الخفية عندنا هم من الجهلة المتطفلين على ميدان الإعلام أصلاً (وهنا يبرز دور النزعة السوقية التي ترافقت مع الحداثة المشوهة في بلداننا). فإن تتهم مواطناً بريئاً بكل ما تحمله كلمة مواطن من (أحزان وهموم) بجريمة لم يرتكبها، وهو أساساً بعيد عن جذور جريمة كهذا، شيء لا يحتمله منطق خاصة أن المشاهد يستمر أحياناً لأكثر من ربع ساعة. هذه الفترة الكافية لتشويش إدراكاته لفترة قد تمتد لأسابيع وهو أصلاً لم يبق في إدراكاته من متسع لمزيد من الهموم. وإذا كانت هموم البشر «ضرباً من التسلية» بين أيدي جهلاء فإنها قد تتحول إلى مثبتات تاريخية يعيشها المواطن كهاجس دائم. ان الكاميرا الخفية عندنا تهدف صراحة إلى المس بكرامة المواطن في جوهرها، إذ يتركز الهدف الأساسي إلى إضحاك الآخرين على الضحية بأساليب أقل ما يقال فيها إنها غير إنسانية. لذلك فإنها .أي الكاميرا الخفية مشكلة تثير الاعتراضات حتى في بعض الدول الاوروبية. لأنها تعتمد عادة على إيقاع الناس في مشاكل وورطات مفاجئة والضحك عليهم. القليل من هذا البرنامج يعتمد على فكرة صحيحة هي التعلم من ردود أفعال الناس على مواقف تتطلب سرعة في المحاكمة العقلية وردود أفعال مناسبة للورطة. عند الأجانب الكاميرا الخفية هي فكرة سريعة وبسيطة جدا ًتقوم على إظهار ردة فعل سريعة عند الناس كلحظة خوف أو لحظة غضب تكون حقيقية بعيدا عن استفزازه بشكل مقصود ومحرج، أما عندنا فنقوم بعمل سيناريو طويل عريض و يقوموا بمناورة الشخص المستهدف بالمقلب (لمدة ساعتين) حتى يخرجوا منه ردة فعل وأغلبها لا تكون طبيعية، فلا يوجد عندنا أفكار جديدة أو مدروسة في مجال الكاميرا الخفية.