وأنا في عزلتي، تذكرت قبيلتي الأمازيغية التي تسكن وجداني، وحتى لا أنسى كنت بين الحين والآخر أستحضرها من الذاكرة. افتقدتها، وكتبت ما كتبت. وإليكم النص الثالث عشر من كتاب "سفر ابزو". 14 نَهْرُ الأسْلاَفِ يمضي جهة البحر شاردا، يَتَأبَّط حزنه، يُلَمْلِمُ جرحه، ويمضي. بصعوبة يتنفس اليوم، ومن حنجرته تصعد حَشْرَجَة الرحيل، يقاوم الملح والرمل، تحاصره الصخور، والتي كانت ذات زمن تحتمي بقلبه، وحتى الأسماك راحت تهاجر، تعرت كهوفه التي كانت رحما لها، وأمست فريسة لأشعة الشمس الجائعة. وديع هو وادي العبيد، ينساب بفتور وكسل، وكأنه شيخ يودع غروب الحياة. أوراق شجيرات الصفصاف الملتهبة ترقص على إيقاع الريح الساخن، تهدهده، وتعده لغيبوبة طويلة الأمد، والعصافير جوقة تُشَيِّع النهر نحو أفق مَرْهون لكل الاحتمالات. هو اليوم وادي العبيد، يتضاءل، تراه يتقلص، يلتف حول سريره، يُطْبِق عليه الأطلس بجناحيه، ويجدُّ في خنقه. كان نهر أسلافي يرعب الملوك، تخشاه الجيوش، متى غضب، فرض شريعته، ومتى طرب، فتح صدره ومنح الأمن والآمان. ومع ذالك، ورغم الشيخوخة المغيرة على سُحنَته اليوم، رغم البُحَّة المزمنة في حلقه، فما زال قادرا على أن يقرأ علينا تفاصيل الحكاية، وأن يبوح لنا بأسراره، وأسرار أسلافي الذين عانقوه ذات زمن أخضر، بجّلوه، وامتزجت مياه جلودهم المالحة، بمياهه العذبة والطينية. به أخصبوا الأرض، وفاحت عطور الخير والعطاء، وعبق الزهور البرية، وأعلنت أن الحياة ستدوم في ربوعه وتستمر. ومتى حاذيتُ نهر أسلافي، يطالعني زمن لم يبق منه سوى الظلال. أحجار ملمومة، مكوَّمة، لجدران سقطت، لتخبرني عمن استجاروا بضفتيه. أصوات الأطفال والنساء والرجال، تأتيك من بعيد، ومن أعلى التلال والقمم المسالمة والوديعة، تلوح لك ظهور أسلافي المقوسة، والمنحنية وهي تنحت من الجبال أشجارا وثمارا. هو الزمن إذ يرتدي لباس الخيانة والغدر، يتشح سيفه ليَجُزَّ بها براعم أغصان غزتها اليبوسة. وكان نهر أسلافي عظيما في شموخه، مترفعا في كبريائه، لا يخشى إلا أن يخونه الغيم، أو يجف الثلج. والآن تعبتِ الروافد من طول المسيل، خنقوا شرايينها، وغيروا مجرى الدم في العروق، ودخل نهر أسلافي فيما يشبه السبات، وها هو يغرق في حلم لا يريد أن يفيق منه. فسلام عليك أيها النبض الأول، والنبض الأخير، ولا أملك غير ماء عيوني أمزجها بمائك لعلك تستعيد بعضا من بهائك، بعضا من هيبتك الفائتة.