تمر ليبيا هذه الأيام بأحداث جسيمة ، سيكون لها على المدى القريب والبعيد تأثيرا بالغا على الكثير من الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والحقوقية دون شك، ويعيش الناس هذه الأيام في ليبيابسبب شطحات معمرالقذافي الذي فقد شرعيته ظروفا عصيبة وحالة من الألم والحزن الشديدين بفعل تشبثه بكرسي الزعامة الفارغة، ذلك التشبث المرضي الفرعوني الذي سبب منذ اندلاع ثورة الشعب الليبيالبطل في سقوط ضحايا أبرياءفي عدة مدن والتي على رأسها مدينة بنغازي الصامدةرغم أن المظاهرات قد اتسمت في أيامها الأولى بالتعبير السلمي. إلا أن ما جرى خلال الأيام القليلةالماضية وخاصة في المدن الشرقية يعتبر كارثة حقيقة ومجزرة وفاجعة مؤلمة وصادمة للجميع دون استثناء، حين سقط عدد كبير من القتلى والجرحى في موجهات بين متظاهرين من الشباب الغاضبين على أعتاب كتيبات أبناء القذافي العسكرية، والتي أعدت لإبادة كل من تجرأ أ ن يهتف بالحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية.. لقد مثّل «القذافي» -حسب أغلب المراقبين -منذ تربعه على سدة الحكم في ثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969م واحدة من أغرب الحالات الشاذة التي شهدها مسرح التاريخ العربي.. فهوغريب في كل شيء،في سياسته بلجنه الثورية ،في زيّه، وفي تحركاته وكلماته ومعتقداته وتصوراته؛ لأنه -حسب نفس المراقبين-حمل عقلاً نادراً في الجنون.. فهو رجل يتغير كالحرباء بين الفينة وأخرى، ويغيّر في اليوم الواحد أكثرمن زيّ بين ليبي وأفريقي وأفرنجي وعسكري، وفي كلٍ مرة يبدو في صورة كاريكاتوريةهزلية مثيرة للضحك.. ويحمل خيمته البدوية أينما حل ورحل ولا أحد يستطيع أن يعارضه، خاصة بعد أن وضع معظم كفاءات وطاقات وعباقرة الشعب الليبي خلف القضبان، والبقية الباقية هاجرت خارج البلاد ..حتى إذاطفح الكيل مع هبوب رياح التغيير في العالم العربي و حين قام شعبه الذي صبر على بلائه لمدة42سنة ليطالب بالتغيير والعدالة والديموقراطية وحقوق الإنسان، انتفض وزمجر وتوعده بالجحيم وملاحقة كل من سولت له نفسه معارضته.. وظل يصرخ هنا وهناك وهو يتوعد ويصف الذين خرجوا إلى الشوارع بالجرذان و العملاء..ليشرع حين اخرج آلالاته الجهنمية في البطش بشعبه ،ذلك البطش الذي لاتستطيع معه حتى الدول العربية الجبانة الوقوف أمامه، مماأدى إلى الإستنجاد بقوى التحالف الأجنبية..وبدخول هذه القوات،دخلت الثورة الليبية في منعطف آخرخطير، بعدما شرعت الدول الغربية، التي تحظى بدعم عربي رمزي ، في شن هجمات تجاوزت هدف إقامة منطقة حظر للطيران فوق الأجواء الليبية، لتصل إلى فرض وقائع ميدانية جديدة لصالح الثوار، بعدما دكت طائراتها العسكرية وصواريخها الموجهة مراكز حساسة تابعة لقوات الرئيس معمر القذافي، موقفة هجوماً كاسحاً بدأته الكتائب الأمنية التابعة لنظامه على معقل الثوار في مدينة بنغازي، ومفسحة الطريق أمامهم للتقدم مجدداً نحو الغرب، من دون أن يعني ذلك ان نهاية القذافي قد باتت وشيكة، بعدما أقرت واشنطن بأن التدخل الغربي قد يصل إلى طريق مسدود. وفي توقيت لافت، تصادف مع ذكرى الغزو الأميركي للعراق عام 2003، أعلن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، عقب «قمة طوارئ» استضافتها باريس، وجمعت وزراء خارجية غربيين وعرباً، عن بدء العمليات العسكرية ضد نظام القذافي، لتبدأ بعدها الطائرات الفرنسية والأميركية والبريطانية في ضرب العديد من المواقع داخل ليبيا، بدءاً بأرتال الدبابات المتقدمة إلى قلب بنغازي، مروراً بأطراف المدن الخاضعة للثوار والتي تحاصرها دبابات القذافي، وأهمها مصراتة، وصولاً إلى مسقط رأس القذافي في مدينة سرت، والعاصمة طرابلس التي باتت حصنه الأخير. القذافي من جهته عامل مع الاستعدادات الغربية للتدخل العسكري باعتماد مناورة سياسية وميدانية، اذ سارع إلى الإعلان عن قبول جزئي بالقرار الذي أصدره مجلس الأمن الدولي ، عبر إصداره قراراً بوقف إطلاق النار، مطلقاً في الآن ذاته هجوماً كاسحاً باتجاه معقل الثوار في بنغازي، في ما بدا محاولة لكسب الوقت، قبل أن تكتمل حلقات الائتلاف الدولي، ذي الغطاء الديكوري العربي، لشن أولى الضربات الجوية، التي بدأ التحضير لها، و واصلت قوات القذافي هجماتها ضد الثوار بالرغم من إعلان الحكومة الليبية في تلفزيونها وأبواقها الرسميةوقف إطلاق النار، إذ حاولت الكتائب الأمنية حسب ما تذيعه وسائل الإعلام المتواجدة في الميدان اقتحام معاقل المعارضة من زنتان غرباً إلى أجدابيا شرقاً، فيما أمطرت مدينتي مصراتة ونالوت بوابل من القذائف والصواريخ. واندلعت معارك في مدينتي نالوت وزنتان في الغرب الليبي.. ويرى بعض المحللين في هذه العملية، ان الزعيم الليبي الذي يصفه البعض بالجنون، قد نجح في استدراج الغرب للتورط عسكريا في ليبيا عندما سرب انباء عن عزم قواته مهاجمة بنغازي للتعجيل بصدور القرار حتى يقدم نفسه كضحية لمؤامرة تدخل خارجي، تماما مثلما نجح في تحويل الثورة الليبية من ثورة سلمية بحتة الى تمرد عسكري عندما تركها تحرر مدنا، وتحقق انتصارات في ميادين القتال.والقذافي حين قام بهذا راهن على الدعم الذي ستقدمه له الدول العربية حين سيروج لأسطوانته المشروخة المتمثلة في المساعدة لصد العدوان الصليبي على ليبيا .وكان يعتقد في موقفه هذا أنه على صواب، ولا شك- في نظره-أن بين اللبيين من المعارضة خاصة وغيرهم من العرب سوف لن يتأخروا في تقديم الدعم لليبيا في حال تعرضها لأي عدوان خارجي، وهذا موقف أصيل في الشعوب العربية، ولعل ما لقيته بعض الدول العربية خلال الثورات التحريرية من دعم ومساندة بالمال والسلاح وكل ما أمكن، أبرز شاهد على ذلك.. غير أن الأمر الذي نسيه أو تجاهله النظام الليبي في شخص شطحات مجنونه معمر القذافي ، هو أن الشعوب العربية سوف لن تدافع عن ليبيا من أجل الحفاظ على نظام فاسد ومستبد فقد كامل شرعيته في ظل الجرائم اليومية التي ترتكبها كتائب القذافي في حق شعب تجرأ على المطالبة بحقوقه الشرعية، كما حصل في تونس ومصر وفي* دول* عربية* أخرى*.. والمتتبع لما يجري اليوم في ليبيا ومن خلال التسجيلات الصوتية الجديدة للقذافي والتي تبث في وسائل الإعلام المختلفة بعد التدخل الغربي، سيجد أن هذا الرجل سوف يقاتل حتي يقتل .. وليس بالذي يتنحى لضغوط دولية أو لوقف نزيف الشعب ، والأمر قد يطول وهذا ما يتوقعه الكثير من المحللين والمراقبين .. وفي ظل هذه المعادلة الصعبة، باتت ليبياتعيش تحت وقع جريمتين، الأولى يرتكبها العقيد معمر القذافي في حق شعبه حين رفض التنحي لحقن الدماء، والثانية الأوروبيون بتدخلهم وإسراعهم لفرض الحظر الجوي على ليبيا.وبذلك يكون العقيد معمر القذافي قد وضع اللبيين والعرب والعالم أجمع أمام شرّين، إما القبول بإبادة المعارضة الليبية ليظل المجنون الذي خرج عن أطواره جالساعلى كرسيه الترنح، أو الترحيب بالغارات وضرب القوات العسكرية الخاصة* بنظام العقيد الذي عقد الأحداث أكثر..والحاصل من كل ذلك كله، أن ليبيا اليوم، بعد تطبيق الحظر الجوي باتت تعيش تحت وقع جريمة اشترك فيها القذافي والأوروبيين معا، جريمة تحاك في حق الشعب الليبي الأعزل، جريمة تنفذ تحت أسماء ومسميات مختلفة، جريمة الهدف من وراءها ليس حماية الشعب الليبي، بل السيطرة على نفطه ولو تطلب ذلك إبادته بأكمله.. محمد حدوي [email protected]