قبل سنوات فقط كانت للرسائل البريدية مكانة خاصة كآلية تبقي جسور التواصل قائمة بين الأهل والأحباب،حيث ما إن ينقطع خبر صديق أو احد الأقارب ولكي نبدد غيوم الشك واليقين من انه سالم في غربته أو عمله حتى نبادر إلى تخطيط رسالة إليه،ونتجه إلى اقرب مكتبة أو دكان لبيع المواد الغذائية لاقتناء ظرف اصفر في الغالب ومن ثمة إلى البوسطة لوضع طابع بريدي عليها والتخلص منها في صندوق الرسائل وكلنا آمل في أن تصل للمرسل إليه في اقرب وقت وان يرد عليها فورا احتراما لعبارة \" الجواب في الحين\" التي عادة ما تختم بها الرسالة التي توصل بها. يومئذ تصلك رسالة تنتظرها بشوق من شخص عزيز وما إن تنهي تلاوة مضمونها حتى تغمس قلمك في بحر من الأفكار وتجيبه على جميل صنعه ولكي تطمئنه على حالك لا بد من استحضار العبارة الشهيرة \"لا يخصنا سوى النظر في وجهكم والجلوس معكم...\" وبشوق اكبر تقصد اقرب وكالة بريدية لتبعث له بالرد. في العالم القروي بينما كنا على أولى دروب فك رموز لغتي الضاد ومولير ونحن الذين فتحنا أعيننا على تمازيغت ولم يفلح في تدجين ألسنتنا على بعض كلمات لغة الضاد سوى دروس القرآن في الكتاب. كان الآباء آنذاك يرسمون لنا نهاية الأفق وأقصى الأحلام في أن ندرس ونجتهد على الأقل لكي نعرف أن نكتب الرسالة ونقراها... وان نعرف قراءة البلايك التي تنظم الاتجاهات في المدن.وقتها كان أقراننا في هاته المدن يستوعبون النقر على الحواسب ويرسمون لأنفسهم أحلاما تتجاوز بكثير تطلعاتنا نحن. لذا فالتلميذ كما الفقيه كانيا مقصد كل من يرغب في تحرير رسالة لوجهة معلومة. كما كان المقدم والشيخ بمثابة فاكتور الدوار بامتياز، وكلما مد الجيران برسالة بحثوا على الفور على من يتلوها على مسامعهم إن لم يكن فيهم من يحسن القراءة وتراهم ملتفين حول القارئ لمعرفة مضمونها بلهف. والأكيد أن المقدمين والشيوخ أنفسهم متى توصلوا في الأسابيع الأخيرة ومستقبل الأيام برسائل تحمل أسمائهم سيترددون كثيرا قبل فتحها مخافة أن يكون محتواها مذكرة من وزارة الداخلية تجبرهم بان يصرحوا بممتلكاتهم،بعد تعميم منشور للوزير الأول يحمل رقم 2010/03 على كافة الوزارات والمنذوبيات السامية يجبر فيه كبار المسئولين والموظفين وأعوان السلطة... بالتصريح بممتلكاتهم قبل 30 غشت المقبل تفعيلا لقانون التصريح الاجباري بالممتلكات. والغريب في الأمر أن المقدم أو الشيخ القروي بالخصوص قد لا يتوفر سوى على عنزتين وحمار أو بغل في أحسن الأحوال يستعمله إضافة إلى أغراضه الفلاحية واليومية في التنقل لعشرات الكيلومترات للوصول إلى القيادة في إطار عمله كعون للسلطة. أما في الوقت الراهن وأمام التطور الهائل للنظام المعلوماتي فقد أضحى اغلب الأفراد يمتلكون حواسب وهواتف نقالة،وبات لكل بريده الالكتروني سواء في الحاسوب أو الجوال ويعد من خصوصياته الشخصية إذ لا يمكن الولوج إليه إلا بفك شفرته السرية. وأصبح الناس يتواصلون بنسبة كبيرة برسائل قصيرة،وأحيانا بمجرد رسائل مختصرة وجاهزة في خزان الهاتف من قبيل: آسف،شكرا،أنا في الاجتماع،أراك لاحقا......على النقيض من الرسائل الكتابية الجاهزة التي كانت تزخر بها بعض الكتب،يكفيك أن تنتقي المناسبة والشخص المراد إرسالها إليه وتقوم بقرصنتها سطرا بسطر وهي المكتوبة بأسلوب أدبي رفيع تجعل أحيانا المخاطب بها في حيرة من آمره من أن قريحتك الأدبية المحدودة هي التي جادت فعلا بتلك العبارات ....بخلاف رسائل الاسمس التي تكتب غالبا بأسلوب مقيت أحيانا وبلغة من اختراع أصحاب الهواتف دواتهم،والتي تكون في الغالب بأحرف لاتينية لكن بنطق عربي(العرنسية)،وكم من شخص أمي يتوصل برسالة قصيرة على جواله ويحتار باله حتى يجد من يفك له رموزها(شوف ليا الله اخليك اشنو جاني فهاد الميساج) وكله لهفة بان يسمع خبرا سعيدا قبل أن يخبره القارئ بمضمون smsوهو أن شركة الاتصالات التي هو من زبنائها تمنحه أجلا لتعبئة رصيده قبل أن توقف هذه الأخيرة الخدمات التي يستفيد منها... وعلاقة بنموذج هذه الرسالة ذات الصبغة التجارية التي تستهدف جيب الزبون المشترك كم مرة نغفل إقفال هواتفنا وما إن نغمض جفوننا للاستراحة من عناء يوم عمل شاق حتى يوقظنا رنين الهاتف بتوصلنا برسالة قصيرة وأحيانا عدة رسائل لتجدها من أرقام مجهولة تحثنا على المشاركة في مسابقة معينة أو أن نتصل برقم معين لشحن هاتفنا بمختلف الرنات الموسيقية...وهلم جرا بمقابل يقتطع من الرصيد. فالرسائل البريدية من النادر أن تخطيء عناوينها على عكس رسائل الاسمس التي تأتينا من أرقام مجهولة مما يطرح معه التساؤل العريض من فوض لشركات الاتصالات التي نشترك معها للاستفادة من خدماتها أن تمد مثل هاته الشركات التجارية بالأرقام الشخصية لمشتركيها وهو ما يتنافى وضمان سرية المعلومات الالكترونية للأفراد... ففي الدول المتقدمة وفي العشرية الأخيرة اعتمدت أنظمة قانونية صارمة لحماية الحياة الخاصة بالأفراد في مجال الاتصالات حيث يمنع بعث رسائل تجارية أو اشهارية إلى الأرقام والعناوين الشخصية للأفراد دون موافقة مسبقة منهم.وفي المغرب لم يتم سن تشريع في هذا الصدد إلا مؤخرا حيث صادق البرلمان على القانون رقم 09/08 نشر بالجريدة الرسمية بتاريخ 29 فبراير 2009 وهو يروم حماية الأشخاص الذاتيين اتجاه المعطيات ذات طابع شخصي.وهذا لم يحول دون استمرار بعض الشركات في امتصاص جيوب المواطنين بطرق احتيالية موهمة إياهم بإمكانية الربح السريع من خلال بعثهم لرسائل إلى أرقام وهمية أو باستمالتهم لإجراء مكالمات مطولة ليتوصلوا بعدها بفواتير سمينة من شركات الاتصالات التي ينخرطون معها ودون حصولهم على أي شيء مما تزعمه الشركات المعنية.وذلك دون أي تحرك من الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات بصفتها الوصي والجهة الحكومية المعهود لها بمراقبة قطاع الاتصالات وبمنح الترخيصات لمثل هاته الشركات الخدماتية لممارسة نشاطها. ورغم هذا كله لم تعد مكاتب البريد تستقبل ذلك الكم الهائل من هواة المراسلة البريدية بل يقصدها الناس لأغراض إدارية مختلفة وأصبحت النسبة الكبيرة من الرسائل التي يفرقها سعاة البريد ما هي إلا فواتير الماء والكهرباء والهاتف ومراسلات البنوك للزبناء....وذلك بعد أن باتت الهواتف النقالة تستقبل ألاف أن لم نقل ملايين الرسائل القصيرة يوميا منها ما هو اشهاري وتجاري ومنها الإخبارية حيث يتوصل بها الراغبين في الاستفادة من هذه الخدمة بمقابل إذ يتوصل المستفيذ منها بأخبار حول العالم....وكلنا نتذكر كيف أن مصطفى الباكوري المدير العام لواحدة من اكبر المؤسسات العمومية بالبلد توصل برسالة قصيرة تتضمن قصاصة إخبارية من لاماب تفيد بإقالته من منصبه قبل توصله بقرار رسمي بالإقالة. في فرنسا يمكن للزوجة التي تعثر على رسالة رقمية مرسلة من جوال زوجها لامرأة أخرى أن تعتمدها قرينة ووسيلة إثبات لطلب التطليق منه. وفي مصر العربية أيضا تعتمد الرسالة الرقمية كوسيلة لإثبات صحة الطلاق وقد سجلت حالة لمهندسة مصرية تلقت رسالة على محمولها من زوجها القاطن خارج البلد تفيد أنها طالق منه وما كان عليها سوى أن قصدت المحكمة الشرعية لتلتمس إثبات صحة طلاقها منه اعتمادا على الرسالة التي توصلت بها في هاتفها منه وذلك بعد التثبت من البيانات الشخصية لصاحب الرقم لدى شركة الاتصالات المنخرط معها. ولو آن القانون يستلزم حضور الزوجين أمام القاضي لسماع أقوالهما وإجراء صلح بينهما في محاولة لثنيهما عن ابغض الحلال قبل أن يخاطب على صك الطلاق. فغراهام بيل إذن لما كان يجري أول تجاربه لمخاطبة صديقه الممسك بعلبة يربطها سلك بعلبة أخرى يمسكها بيل في غرفة أخرى في محاولة منه لاختراع ما سمي لاحقا بالتليفون ربما لم يكن يتصور انه سيأتي فيه يوم سيطور فيه هذا الاختراع الكبير حيث يجلس شخص في بيته في نيوديلهي ويكتب رسالة رقمية لصديقه في وارزازات مثلا وتصله في الحين والواسط بينهما هاتفين لاسلكيين.... كما أن قيس بن الملوح مثلا ربما لم يكن ليتفقد اثر ليلى العامرية أينما حلت وارتحلت كل يوم لو عاش في عصر الجوال فلن يبحث عن الورق وعن الرسل ولن يكتب على الجدران لإيصال أسمى معاني الحب لمعشوقته.... ورغم ذلك كله فللرسائل البريدية نكهة خاصة وقيمة اجتماعية كأول أداة للتواصل قبل تطور وظهور آليات أخرى في الوقت الحالي مما قزم من دورها كوسيلة تقليدية للتواصل. وحبذا لو تواصلنا بين الأحباب والأصدقاء بين الفينة والأخرى برسائل بخط اليد لإعادة الاعتبار للرسائل البريدية أمام طغيان الرسائل الرقمية على أسلوب تواصلنا مع الغير... ومن تبعات توصل زبناء شركات الاتصالات برسائل احتيالية تنهب جيوبهم فضلا عن ارتفاع أسعار المكالمات الهاتفية أن بدأت في الأيام الأخيرة حملة تعبئة شاملة في الموقع الاجتماعي الفايس بوك من اجل تحسيس أصحاب الهواتف النقالة بإغلاقها يوم 30 ماي الجاري احتجاجا على غلاء تسعيرة المكالمات بالمغرب رغم وجود مجموعة من الفاعلين في القطاع وأيضا أمام انتهاك حرية وسرية معلومات الأشخاص ذات الطابع الخاص كأرقام الهواتف والبريد الالكتروني وغيره... واستغلال ذلك من قبل شركات متخصصة في الإثراء على حساب مواطن يكابد بالكاد من اجل أن ينزع لقمة من أفواه السباع.