كنت بين الناس قشة محمولة بين ذراعي زوبعة قاسية ومدمرة تتلاعب بي وتتقاذفني الأرجل والأعين، أما هنا في عزلتي فأنا فجر ثقيل مشدود إلى حلم يعتلي كل الصباحات ولو هبّت آلاف العواصف فلن أتزحزح. كنت بين الناس خيالا، طيفا وشبحا لا أتعرف إلى ذاتي وقلما أتبين ملامحها المسروقة في ملامح ذوات الآخرين، أما هنا، فقد استعدت أنايا ووجهي ورأيتني في كامل عريي كما لم أرني قط. كنت بين الناس ذلك الغراب الذي يتطيرون به، ويشمئزون من صوته، ويتشاءمون من قدومه عليهم، أما هنا، فأنا العصفور الصداح الذي لا يكاد يرفع صوته حتى تبسم الطبيعة ويشرق الكون. كنت بين الناس سلحفاة أحتمي بقوقعتي، ولا أطل على العالم الخارجي إلا إذا نسيت، وغابت عني معالم الموجودات، أما هنا، فأنا الطائر المحلق في فضاء مفتوح على رحلات بعيدة، بصري يتوغل في أقصى أبعاد الكون المكشوف منه والخفي. كنت بين الناس كلون الحداد، ينسبون إليّ كل مصائبهم، أما هنا، فأنا الثوب الشفاف الذي تخترقه كل الأضواء، ومنه يمكن أن تتأمل كل الأشياء رقراقة كالبهاء. كنت بين الناس الشاعر الغاوي الذي لا يحسن إلا أن يقول ما لا يفعل في لغة جميلة مخادعة ومنافقة مثقلة بالخيال والوهم فلا يستمع ويستمتع بتشبيهاتي واستعاراتي وصوري أحد، أما هنا، فأنا الشاعر المُفْلق الذي يحيا بالشعر في الشعر، ويرقص الغيب لإيقاعاته. كنت بين الناس مثقل الخطوات، هش العظم، لا أخطو خطوة حتى أصاب بالإرهاق والتعب، أما هنا، فلا حدود لأقدامي، سيري تحليق في سماء كينونة لا متناهية. كنت هناك بين الناس كالصخرة رهن الأرض، تتعاورني الأيام والليالي، تتقاذفني الأزمة، أما هنا، فأنا الريح والماء، أسافر في كل الاتجاهات، وأتواجد في كل ما ومَن تنبض فيه الحياة. كنت بين الناس كالأعمى لا أبصر غير الدخان أو ما يشبه الضباب، بل هي الدجنة الأبدية المسلطة على بصري، أما هنا، فأنا النور نفسه. كنت بين الناس أضائل نفسي حتى لا أعرضها لعيونهم وفضولهم، بل كثيرا ما أحسست أني لم أعد موجودا إلا كخيال يمشي بينهم، أما هنا، فقد استرجعت وجودي المُصَادر، وأراني بوضوح في كل ما يقع عليه النظر. باسقا أكتشفني كجدائل النخل، ومتدفقا أراني كالشلال. كنت هناك بين الناس بائسا فقيرا ومعدما أخجل مني، كلما بسطت الكف لا يمنحونني غير الجحود والكراهية، أما هنا، فأنا الغني المالك ما لا يملكه قارون ولا هارون، ومحفوف بالنعمة والوفرة وبلا حدود. كنت بين الناس أعاني الظمأ، أشرب من ماء صنابيرهم فلا أرتوي، الشفاه ناشفة، والحلق جاف، والجلد يابس ذابل وباهت، أما هنا، فتكفيني جرعة من مزنة، أو رشفة من النهر لأروي عطشي، وتعود لعودي نظارته، وخضرته، فتزهو أغصانه. كنت بين الناس ولم أعد