لا شيء هنا يضاهي مملكة الرؤى، إنها مملكة غير محصنة، مفتوحة على كل الاتجاهات، لا تتطلب لكي تصبح مواطنا فيها سوى أجنحة من خيال، وشعور يتدفق فيه دم نقي. قد يخونك الواقع ويخدعك وأنت تسعى لقراءة آياته، وتتهجى معالمه لعلك تفهم وتكون من الفئة الناجية، لكن الواقع الذي صنعه الأوغاد الأقوياء تيار جارف يأخذك وأنت العاجز عن الانفلات، قد تمد يدك لعل يدا أخرى تنتشلك من انجرافك، ولكن لا يد، قد تتعلق بجدع شجرة منجرف مثلك أملا أن ترميكما الأمواج إلى الشاطئ فيخيب ضنك، ولكن صدق وتمسك برؤاك فلن تخدعك. الرؤى نور مشع يضيء لك عتمة رؤيتك، والعين اللعينة لا تلتقط إلا ما يشتهي الأوغاد، يملئونها بالصور الزائفة، والحروف العاهرة ويتركونك وحد في الورطة، تتخبط خبط عشواء فلا تدري من أية جهة يأتيك المكر. الرؤى بوح من العيب يأتي ليعلن الحقيقة التي يجاهد الذميم لتزييفها، يلبسها أبهى الحلل، ويزينها بأغلى الجواهر، ويعطرها بأفوح العطور، وعلى وجهها وجسدها ينثر المساحيق، ويغريك لتضاجعها وأنت لا تدري أنك تتناول سما في عسل. ثق برؤاك، وسر على أثرها حين ما قادتك، وكن واثقا أنك لن تتوه، بل أنت ذاهب إلى مملكة الفضيلة ولن تحتاج هناك إلى أكثر من التوحد لينبلج صبحك الأزلي من ظلمة ليل قائمة في دواخلك. الرؤى سنبلة أخيلة متوجة في حقل روته الآلهة بماء الحكمة، وفي كل سنبلة ملايين الحبات يكفيك أن تلتقط واحدة، تغرسها في بستانك، ترعاها، وتصبر حتى تنضج فتحصدها، تتغذى بها وهب للساقطين بعضها لعلهم يشكرون، لعلهم يتنعمون بما جدت به عليهم، ولا تترقب شكرهم فالأنذال لا يعترفون ولا يحسنون إلا النذالة والقبح. الرؤى قاربك العزيز المنال الذي يمخر بك صحراء الحياة المومس والتي لا تلقاك إلا وقد وضعت كل المساحيق لتزيف وجهها اللعين اللئيم وتقايض شهوتك بالتقرب وأنت لا تدري أنك تسلم حياتك ولن تشبع نزوتك العابرة، فاحذر أن تغويك ساعة ضعف، وأن تجعل منك قربانا، فلا منجاة حين تتلاطم عليك الأمواج من كل فج سحيق عير الرؤى منقذا. الرؤى شيخ حكيم جرب الحياة المرئية قبل أن يصاب بالعمى ليخوض تجربة الحياة غير المرئية، ليتحول إلى خبير في العوالم الداخلية لكثرة ما ترك وحيدا ومعزولا منبوذا يسكن ظلمته الأبدية، يفكر، يتأمل ويستخلص العبر، يعلمك أن النور لحظة عابرة من وجودنا، وأن الظلمة هي الأبد والأزل، منها أتينا وإليها نحن سائرون. الرؤى بستان من نشوة عامرة وناعمة يلقاك، يحتفي بك، ومن موائده الثملة بالحسن، المنمقة بالجمال تتخير العين ما تشتهيه، فخذ ما تراه لك نافعا، فليس كل ما يشع ينير، وكل من سدّدّ يصيب، وحدها الرؤى تهديك للاختيار الصائب. الرؤى وطن لمن لا وطن له، هي أرضك المحررة، بها تردم حفر الخبثاء الجبناء، وفيها تمضي متجاوزا حواجز التضييق، وأضواء المنع من الضرب في أرض الله الواسعة، بها تكسر جبروت المكبوتين الذين يحرمون ويبيحون على هواهم ولا قاعدة تبرر أفعالهم وأقوالهم غير مصالحهم الشخصية البائسة، ويخدعون ضميرك بعذاب وثواب لا يوجد إلا في أذهانهم وعقولهم المريضة. بايع رؤاك، وحده من يبايع رؤاه يفسد على المفسدين نعمة الاستبداد