مطر خفيف يرش الأرض هذا الصباح الربيعي المشرق، عبق رائحة التراب تنتشر في الأنحاء، إنها رائحة الخلق الأولى، تذكرني برائحة بيتنا الطيني حين تستيقظ والدتي باكرا لتنكسه وترشه بالماء رشا خفيفا. تناولت بعض الطعام داخل الخيمة، وخرجت أتأمل الفقاعات التي ترقص حين تلامس حبيبات المطر وجه النهر فيتعانق الماء بالماء، يمتزجان وتشتعل الأضواء، فيتحول الفضاء إلى مرقص مجنون، فيكون الاحتفال، ويكون المهرجان. من يفكر في الماء، يشعر بالحيرة، يصاب بالدوار. فمن يستطيع أن يقول لنا من أين جاء كل هذا الماء؟.. يتوقف المطر فجأة، وبهدوء يعبر السحاب الداكن بحر السماء، تنفتح أبواب زرقاء، منها يغوص البصر عميقا في ثقوبها، فلا يرى سوى نفسه، وعلى الأرض يمتد اللون الأخضر الموشى، يتعرى الجمال، تنكشف الأنوثة، يصدح الطير، يغني الخرير، وتتدلى الجدائل، تفوح العطور، الكل يجهد ويجتهد ليبرز عبقريته الفنية والجمالية، كل في مجاله..الجميع يركبون بساط النسيم، يسافرون في الأنحاء ليزرعوا الخصب في المناطق المنسية في هذا الكون اللامتناهي، في مثل هذا الفصل تبدع الطبيعة اللون والنغمة والحركة والرائحة ويكون الفن، تقيم طقوسها الخاصة فتكون هي المدعوة والمحتفِلة في نفسك الآن، وأكون أنا الشاهد الآتي من الخواء لأتلصص على أسرارها المخفية عن عيون البشر وأمتلئ. عذراء هي الطبيعة حين تعدوا نحوك مهرولة ولا تطلب منك غير الابتسامة، وذراعين حنونين دافئتين لتلقي عليك جسدها الهش الناعم. استلقيت إلى ظل شجرة، ونسيت أني هنا..هك ذا تتحول الطبيعة أمام ناظري وكأني بها تنبهني إلى أن كل ما في الكون دائم التحول والتبدل، وأن كل من يفتقد للمرونة في عقله وجسده معرض للانقراض، فلم يفلح جسد الدينصور من إنقاذه، ولكن كائنات صغيرة تمكنت من الصمود والبقاء، وواصلت مسيرة الحياة، رحلة الوجود، والإنسان جزء من هذه الطبيعة، وعليه أن يتواصل ويتفاعل ويستجيب...وإلا أصبح من جنس المتحجرات...يحيا محنطا كالموميات، لا يصلح إلا للمختبرات، وما ينطبق على الفرد ينطبق على الجماعة وثقافتها وحضارتها. إن أكثر ما أخشاه هو أن أفتقد هذه اللحظات التي أحياها في تناغم تام مع نفسي والعالم، أعرف أن لحظات المتعة هذه لحظية، آنية ولكن أدرب النفس لأن تجعلها تدوم وتستمر أكبر وقت ممكن، ولم لا دهري كله.. كثير هم من يعتقدون أن الاطمئنان والرضا يمكن الحصول عليه خارج دواتنا، في جمع المال، والعقار، وأكل أشهى الطعام، ومعاشرة أجمل النساء...من يعتقد هذا فهو إما مخدوع، أو أنه يخدع نفسه، أو لا يريد رؤية الحقيقة وهي ماثلة أمام ناظريه لأنها تفسد عليه بلادته، كل من ذاق هذه الأشياء يشعر بالملل والضجر لأنه يعلم أن هناك رغبات ما تسكن أعماقه ولم تتحقق، وسيظل يبحث عنها إلى الأبد وأراهنه أنه لن يعثر عليها قط، لأنه ظل الطريق إليها. لقد علمتني التجربة أن السعادة والإحساس بالذات والأنا عند امتلاكها أشياء العالم الخارجي سرعان ما تزول وتترك المجال للقلق والحيرة وعدم الإشباع، فتبحث من جديد عن أشياء جديدة تقودنا حتما إلى نقطة البداية. منبع السعادة الروحية والنفسية هي المقصد والمبتغى ولن تعثر عليها أبدا في عالم الناس، إنها في أعماقنا البعيدة الغور، وعلينا أن نعرف كيف نمد قنوات الماء لإروائها، وأنا على يقين لو حفرنا قليلا ستتفجر المنابع والعيون، وتصحوا السنابل، وتفوح منا وفينا العطور، ونرى الحياة كما لم نرها من قبل، ونحيا حياة داخلية آمنة ومطمئنة... ترى ما فائدة الدنيا الواسعة إذا كان حذاؤك ضيقا؟