لعل الجمع بين ما لا يمكن الجمع بينه هو كلمة السر في شخصية العلامة الفقيه الدكتورعبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه وهذا ما فطن إليه قرين دربه العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حين قال عنه: "يجمع بين المحافظة والانفتاح، فهو رجل محافظ ولكنه ليس منغلقاً، ُميسِّر ولكنه ليس متسيباً، مالكي يحفظ فقه المالكية متونهم وشروحهم وحواشيهم ومنظوماتهم المختلفة، ولكنه أيضا علامة في الفقه العام والفقه المقارن، سلفي العقيدة ولكنه أيضا صوفي صاحب نزعة ربانية لا رهبانية...". ويستكمل القرضاوي "ويجمع كذلك بين ما يسميه الناس في عصرنا الأصالة والمعاصرة، فهو رجل أصيل موصول بالتراث، عارف به مطلع على كنوزه المختلفة، في الفقه والتفسير والحديث والتاريخ والأدب وغير ذلك، ولكنه غير غائب عن العصر.. ابن بيه يعرف الماضي ويعايش الحاضر ويستشرف المستقبل". هكذا هو العلامة الفقيه بن بيه.. صاحب الحافظة التي صارت بين فقهاء العصر مضرب الأمثال.. لكنه أبدا ما ركن إلى المتون والحواشي والشروح واكتفى بها.. وإنما وهبه الله مع ذلك موهبة التعامل مع الواقع، والقدرة على تنزيل الحكم على مستجدات هذا الواقع.. وتلك هي الميزة الحقيقية. في بيت القاضي هو عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، مولده في عام 1935م بمدينة تمبدغة جنوب شرق موريتانيا. نشأته كانت في كنف والده القاضي العلامة المحفوظ بن بيه، وهي النشأة التي اختطت للصغير طريقه من البداية، حيث بدأ تلقي العلم منذ نعومة أظفاره على يد علماء عصره أمثال العلامة محمد سالم بن الشين، والعلامة الشيخ بيه بن السالك المسومي، وغيرهما من علماء شنقيط المعروفين بغزارة علمهم، وقوة حافظتهم. وبعد أن استوى الشاب على عوده، سافر إلى تونس في بعثة لتكوين القضاة، وبعد عودته تنقل في عدة مناصب منها: رئيس مصلحة الشريعة في وزارة العدل، ثم نائبا لرئيس محكمة الاستئناف، ثم نائبا لرئيس المحكمة العليا ورئيسا لقسم الشريعة الإسلامية بهذه المحكمة. ثم عين مفوضا ساميا للشؤون الدينية برئاسة الجمهورية؛ حيث اقترح إنشاء وزارة للشئون الإسلامية فكان أول وزير لها، ثم وزيرا للتعليم الأساسي والشؤون الدينية، ثم وزيرا للعدل والتشريع وحافظاً للخواتم، ثم وزيراً للمصادر البشرية – برتبة نائب الرئيس - ثم وزيراً للتوجيه الوطني والمنظمات الحزبية.. ثم انتهى به المطاف إلى جامعة الملك عبد العزيز في جدة.. حيث يعمل أستاذا بها إلى الآن. وللعلامة بن بيه العديد من المؤلفات لعل أبرزها: توضيح أوجه اختلاف الأقوال في مسائل من معاملات الأموال، حوار عن بعد حول حقوق الإنسان في الإسلام، خطاب الأمن في الإسلام وثقافة التسامح والوئام، أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات، سد الذرائع وتطبيقاته في مجال المعاملات، فتاوى فكرية، صناعة الفتوى وفقه الأقليات، مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات، أثر المصلحة في الوقف، البرهان، الإرهاب: التشخيص والحلول، دليل المريض لما له عند الله من الأجر العريض. صوفي النزعة كلمة السر في هذه الشخصية هي الجمع بين ما يمكن أن يظنه كثيرون متناقضات.. فمع أن الرجل سلفي العقيدة، فإنك تراه صوفي النزعة، قادرا على الانفكاك عن محيطه الذي يحيا فيه، متوجها بكليات قلبه إلى ربه جل وعلا. شاءت الأقدار أن أصحبه من مقر إقامته بأحد الفنادق بأطراف العاصمة المصرية أثناء مؤتمر رابطة خريجي الأزهر الأخير، إلى حفل على شرفه بوسط العاصمة، واستأذنته أن أغتنم الفرصة في حوار عن قضية كانت مثار جدل وقتها، وبكل حياء رد قائلا: "إن شاء الله.. لكن أستأذنك أولا أن أستكمل وردي ثم نبدأ بعدها". وهنا تبرز إشكالية اعتبار بعض العقول مثل تلك التصرفات خارج إطار السنة، أو خارج إطار المنهج السلفي، لكن العلامة بن بيه وأقرانه من أثبات العلماء لا يرون ذلك مطلقا، على اعتبار أن التصوف الحقيقي أصله هو الكتاب والسنة، وهذا ما أكده المتصوفة الأوائل مثل الإمام الجنيد الذي قال: "مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة". التصوف عند بن بيه وعلى حد تعريفه: "هو الإحسان، وهو البحث عن الكمال والحب والتشوق إلى لقاء الله..". ولكم دعا بن بيه إلى إحياء علم التصوف؛ لأنه بحسبه "إحياء لعلوم الدين"، وهذا يؤكد أنه يعتبره علما من العلوم الإسلامية، على أساس أن العلم إما أن يكون موضوعه الظاهر، كأعمال الجوارح وهو ما يسمى بالفقه، وإما أن يكون موضوعه الباطن، وهو ما يخص جانب تزكية النفوس، والرقائق، والزهد، وهو ما يسمى بالتصوف. صناعة الفتوى أما بن بيه الفقيه.. ولأنه فقيه فإن الفتوى عنده صناعة.. ألف فيها كتابا أسماه "صناعة الفتوى"، وهذا الكتاب على وجه التحديد يبرز قيمة العلامة بن بيه، ويحدد ملامح العبقرية في شخصيته.. من حيث الموضوع وأدوات فهمه، وقدرة التشبيك بين القواعد الكلية داخل منظومة الفقه والواقع بكل ما يحمله من مستجدات، والخروج في النهاية برؤية أصولية شاملة قادرة على استيعاب تلك المستجدات بلا إفراط أو تفريط. فلقد اختار مصطلحا غريبا نسبيا على الأدبيات الفقهية والشرعية عموما، وهو مصطلح "الصناعة"، مما يدل على رؤية أوسع لعملية ربما بدت بدهية عند كثير من الممارسين لها، وهي عملية الإفتاء. وسبب ذلك أن الصناعة عبارة عن ممارسة مستمرة لمراحل شتى، فهي ليست فعلا ساذجا ولا شكلا بسيطا على حد تعبيره، بل هي من نوع القضايا المركبة التي تقترن بمقدمات كبرى للوصول إلى نتيجة نهائية. ولعل هذا تحديدا هو ما أراده العلامة بن بيه من الفقيه الممارس لعملية الإفتاء، أن تمر فتواه بمجموعة من المراحل، تبدأ بالتشخيص الصحيح، ثم التكييف الشرعي للواقعة محل الفتوى، ثم تلمس الدليل لهذه الواقعة من مصادره، ثم المرحلة الأهم وهي تنزيل الدليل على الواقعة بحرفية الصانع - أعني الفقيه- الذي يدرك أبعاد الواقع وطبيعة الدليل، ويفقه أولويات فتواه ومآلاتها. هذه العملية هي ما عبر عنها العلامة بن بيه في الكتاب قائلا: "الفتوى منتج صناعي ناتج عن عناصر عدة منها الدليل ومنها الواقع، والعلاقة بين الدليل بأطيافه المختلفة التي تدور حول النص وبين الواقع بتعقيداته". إن كتاب صناعة الفتوى يمثل قمة النضج لفقيه عالج المتون والحواشي والشروح، وعايشها معايشة وصلت لمرحلة الهضم والقدرة على إعادة إنتاجها، بأسلوب يتناغم مع عصر. بن بيه وفقه الأقليات اشتهر عن الفقيه الوزير بن بيه قدرته على إيجاد حلول شرعية لما تعانيه الأقليات المسلمة في الغرب؛ فالرجل بحق يعد أحد مؤسسي فقه الأقليات الذي كان له الفضل الأكبر في قدرة المسلمين داخل المجتمعات الغربية على الانصهار داخل تلك المجتمعات، مع الحفاظ على هويتهم، بل تحول معظمهم بما حواه هذا الفقه من نظرة وسطية إلى دعاة للإسلام بسلوكهم السوي، وبعدم انعزالهم وتقوقعهم. وبن بيه حينما أراد التأصيل لفقه الأقليات قال في إجابة عن سؤال طرحه (لماذا فقه الأقليات؟): إن فقه الأقليات يبحث عن إيجاد مسطرة لسلوك الأقليات، فهو عبارة عن واجبات الأقلية في ثلاثة اتجاهات: الأول: وهو ما يمكن أن نسميه واجب الهُوية، وهو ما عبر عنه بين بيه بقوله: اتجاه المحافظة على ممارسة إيمانها ودينها، ليس على مستوى الفرد فحسب، بل على مستوى المجموعة. الثاني: واجب التواصل والاندماج، وهو بحسب تعبير بن بيه: تذكير الأقلية بواجبها تجاه المجموعات الأخرى التي يجب أن تتواصل معها، بحيث لا تصبح ديانة الأقلية جدار عزل وفصل، بل جسر تواصل ووصل، بمعنى أن يتم تفعيل المشترك الإنساني مع غيرهم من المجموعات التي لا تشاطرهم المعتقد. الثالث: اكتشاف قاعدة الإسلام الكبرى.. وهي التيسير، وهو ما عبر عنه بن بيه حين قال: فقه الأقليات يسهل الحياة الدينية وييسرها، فهو يعلم المسلم أن له فسحة في دينه ويسرا في أمره. إذن هي قواعد الحفاظ على الهوية، وتفعيل المشترك الإنساني، وإعادة اكتشاف يسر الدين بحسبانها القاعدة الكبرى، وهو ما ينتج اندماجا للأقلية بلا ذوبان، وهذا الاندماج قال عنه بن بيه: حالة من التفاعل الإيجابي تشير إلى تأثير وتأثر واع بذاته، تحتفظ فيه الأقلية بخصائصها وثوابتها وتستعير من الأكثرية مزاياها وإيجابياتها؛ لإيجاد فضاء من القيم المشتركة. ففقه الأقليات عند بن بيه يمثل مرحلة هضم متون الفقه الإسلامي وقواعده الكبرى ومقاصده العليا، وإعادة إنتاجها بصورة تلائم الواقع، بل تتناغم معه لإنتاج صورة إسلامية أكثر إشراقا.. بعيدا عن الصورة الجامدة المتجمدة الثابتة، أو الصورة المفرطة التي تذوب في غيرها. بن بيه والتراث ولعل حديثا للعلامة بن بيه في إحدى حلقات برنامج الشريعة والحياة عن "الفقهاء وتقسيم العالم" يبرز قدرته على هضم التراث الفقهي وإعادة إنتاجه بصورة فريدة، دون افتئات عليه أو تزيد في التعلق به. يقول: إن العلماء لهم اجتهادات متعددة حول مصطلح تقسيم العالم، فبعضهم يقول: "دار حرب ودار إسلام ودار عهد"، أي إن دور الكفر تنقسم إلى قسمين: إلى دار حرب، أهلها يحاربون، وإلى دار عهد وأمان أو عهد وموادعة أو عهد وهدنة، يسمونها كل هذه الأسماء. ثم ينقل عن ابن تيمية أن هناك دارا مركبة، وهى دار لا دار حرب ولا دار إسلام، فهي واسطة بين دار الحرب ودار الإسلام ، أو بين دار الكفر ودار الإسلام؛ لوجود جنود من التتار لم يكونوا مسلمين، وإن كانت عبارة الفتوى قد يفهم منها غير ذلك. ويعلق قائلا: والدار المركبة وجهتها فريدة؛ لأن العلماء جروا على دارين أو على ثلاث دور، والتقسيم سببه هو الأحكام المترتبة عليه، هل تجب الهجرة من دار غير المسلمين إلى دار المسلمين؟ هل تجوز الإقامة في دار غير المسلمين؟ هل تجوز المعاملات الفاسدة التي لا تجوز شرعيا في هذه الديار كما هو مذهب الأحناف؟ ثم يحاول بن بيه فك الالتباس الذي لا يحسنه إلا هاضم للتراث مثله، فيقول: هذه الأحكام الشرعية المتعلقة بالدور كرست لهذا الانقسام، لكن السبب التاريخي هو أنه لم يكن العالم محكوما بمعاهدات، حيث لم تكن العلاقة بين الدول بل بين القبائل عندما بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كانت هذه العلاقة إما عداء أو حربا أو غلبة أو أن تغلب دولة دولة أخرى كما بين الروم وفارس، أو أنها تخضع لها، بمعنى لا تقبل منها غير ذلك، حيث لم تكن الصدور متسعة في ذلك الوقت إلا للقتال أو لغلبة أحد الطرفين، لا بد أن يكون مغلوبا والآخر يكون غالبا، فهذا الواقع الذي كان في حياة القبائل وفي حياة الدول المنظمة مثل الفرس والروم. ثم يؤكد على تاريخية مثل هذه الأحكام قائلا: هذا الواقع انعكس على واقع الفقه عندما أراد الفقهاء النظر في العالم في هذا الوقت، فهو عالم من جهة إما أن يكون محاربا وإما أن يكون مسالما داخلا تحت حكم الإسلام، بما يسمى بالذمة، أو معاهدا وهذا له أحكامه الخاصة فيه، فهو تقسيم تاريخي يعتمد على ظواهر من النصوص، ويعتمد على بعض التطبيقات المتعلقة بالأحكام الشرعية. ويحلل بن بيه فتوى ابن تيمية قائلا: هناك خلل كبير في فتوى الدار المركبة، كما ذكر شيخ الإسلام أن هذه الدار فيها معنيان، وأنه يجب أن يعامل المسلم بما يستحقه، وأن يعامل الخارج عن الشريعة بما يستحقه ويقاتل؛ لذلك فالخلل هو أن نسخا مطبوعة من فتاوى ابن تيمية فيها "ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه". وتظهر ملكة الرجل الفقهية الأصولية حينما يقول: "والحقيقة عندما قرأتها لم أستسغها، وقلت: إن الصياغة والسياق لا يقتضيانه، بل يقاتل هذه هي يعامل؛ لأنه كيف تقول يقاتل بما يستحقه؟ القتال ليس فيه درجات، يقاتل يقاتل، ثم إن السياق يدل على وجود مصانعة ومعايشة بين الطرفين، وهذا سياق فتواه؛ ولأجل هذه قلنا: إنه يعامل. ثم يستطرد بن بيه قائلا "ولكن لحسن الحظ، وجدنا ابن مفلح في كتابه (الآداب الشرعية) ينص على هذه الفتوى، ويقول: إن شيخ الإسلام قال: ويعامل الخارج عن الشريعة بما يستحق؛ لأن يقاتل فيها خطورة كبيرة تلقفها بعض الناس وترجمت في اللغات الأجنبية مع الأسف، وقال: يُقاتل!! من الذي يُقاتَل (مبني للمجهول)، ثم من يقاتل؟ ثم ما هي درجة الخروج عن الشريعة التي تؤدي إلى المقاتلة؟ ومما يستحقه؟ وما هو هذا الاستحقاق؟ إشكالات كبيرة، ووجدت ابن مفلح ساق الفتوى- وهو تلميذ ابن تيمية- صحيحة، وكذلك محمد رشيد رضا قبل قريب من مائة سنة".