تعتبر المذاهب في حقيقتها مجالا خصبا للتجديد والاجتهاد وتعبيرا أصيلا عن حرية الفكر وثراء عقل الأمة الإسلامية ، وإغناء الواقع الإسلامي بما يلبي احتياجاته أولا بأول، وأن تتمسك دولة معينة بمذهب معين لا يعني التعصب، بقدر ما يعني تنظيم وتأطير ممارسة الأحكام من أوامر الشارع ونواهيه، فكان المذهب المالكي مذهب المغاربة لما له من مميزات توافقت مع وجدانهم وعقولهم وفلسفة آرائهم، ولما فيه من صفاء فقهي ، فمالك رضي الله تعالى عنه جمع بين الفقه والحديث والزهد والورع و مكانته لاتخفى لدى أئمة المذاهب الأخرى، وقد نقل عن الشافعي: «مالك بن أنس معلمي، وعنه أخذت العلم»، وإذا ذكر العلماء، فمالك النجم وعندما سئل ابن حنبل عن سفيان ومالك إذا اختلفا في الرواية ، قال: «مالك أكبر في قلبي» ولما سئل عن اختلاف مالك والأوزاعي قال: «مالك أحب إليّ وإن كان الأوزاعي من الأئمة هذا المناخ السليم يعني الاختلاف المبني على التنوع والإجلال والاحترام، وليس مظهرا من مظاهر التعصب المفضي إلى الفرقة والفتنة باعتبارهما علامة على التخلف والانحطاط، فكيف كان المذهب المالكي في جانب من خصوصياته يتوافق وروح العصر؟ تبرز جمالية المذهب المالكي في استيعابه الشمولي ورحابة وسائله ، وهو ما يمكن الإلماع إليه في السطور الآتية : تشديد المذهب المالكي في المحافظة على السلم والأمن داخل الأمة الإسلامية وخارجها مصداقا لقوله تعالى :(ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون). ممارسته للتجديد ومراعاته للتطور المواكب للعصر برؤية إسلامية فقهية دقيقة بفضل أخذه بمبادئ العادة الحسنة والمصلحة المرسلة وسدّ الذرائع . التّيسير في آرائه وفي استنباط أحكام قواعده من القرآن الكريم والسنة المطهرة الشريفة مثل قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر) وقوله :(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وقوله :(و ما جعل عليكم في الدين من حرج) وقوله صلى الله عليه وسلم : «يسروا و لا تعسروا» وقوله: «إياكم والغلو في الدين» وقاعدة «الحرج مرفوع» و«المشقة تجلب التيسير» و«الضرر يزال» و«الضرورات تبيح المحظورات» و «الأصل في الأشياء الطهارة والإباحة» وغيرها من القواعد التي تؤسس البناء المتواصل بين الإنسان وربه وبين الناس مع بعضهم . السعي إلى تحقيق التعايش وترسيخ أصوله وهو ما قرره في قاعدة «المختلف فيه لا يجب فيه الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر» وهو ليس خاصا فقط بأهل المذاهب والطوائف بل هو تصور عام، إذ التعايش مقرر عنده بين أهل الفقه فكيف بالحياة الإنسانية العامة، وقد روي عن مالك أنه دخل المسجد بعد صلاة العصر وجلس ولم يصل تحية المسجد فقال له صبي: قم يا شيخ فاركع ركعتين، فقام فصلاهما فقيل له في ذلك، فقال خشيت أن يصدق علي قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ). تبنيه لفلسفة الوسطية والاعتدال ، ويتجلى ذلك في مجموعة من الأحكام والمواقف التأصيلية لقواعده ، كأخذه بالقياس. الرؤية المنطقية في استيعاب القواعد الفقهية ، باتخاذ شرع من قبلنا شرعا لنا ما لم يرد ناسخ، وهكذا أخذ المالكية بمشروعية الكفالة من شريعة يوسف، كما حكاه الله عنه في قوله تعالى: « ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم». رفضه لإقصاء الغير أو تكفيره، فقد سئل مالك عن المعتزلة أكفار هم؟ قال من الكفر فروا. السعي إلى إقرار سبل رفع الخصام والمغايرة بإقراره بقاعدة حكم الحاكم يرفع الخلاف. إقراره الأخذ من المذهب الشافعي أو الحنفي إذا لم يوجد نص للمالكية في النازلة المعروضة وهو دعوة إلى احترام فكر الغير والانفتاح عليه تمحيصا لا استهلاكا . إقرار مالك بحرية الاختيار من خلال رفضه فرض مذهبه وموطئه على جميع الأمة حين عرض عليه الخليفة العباسي ذلك . آداب قبول الآخر، وذلك بقبوله رواية المبتدع إذا لم يكن داعية لمذهبه ولم يكن ممن يستحل الكذب . بعد الرؤية والتصور المقصدي ،في الحفاظ على الضروريات الخمس الدين والنفس والمال والعرض والعقل . تحكيم العقل والواقعية في أحكامه فقد كان مالك رحمه الله إذا سئل عن شيء من ذلك يقول للسائل، سل عما يكون ودع ما لا يكون، وربما أعرض عن السائل، فإذا ألحّ عليه السائل في طلب الجواب يقول له: لو سألت عما تنتفع به لأجبتك.