في الوقت الذي لا تزال فيه انتفاضة الأقصى تبحر بقوة لتعبر عامها الرابع، يبدو أن البحر من حولها متلاطم الأمواج، فقد رمت قوى الشرّ في العالم انتفاضة فلسطين عن قوسٍ واحدة، إذ كشفت أوروبا عن وجهها القبيح، وهذه من المبشّرات، فإنما تزداد الأمواج عنفاً كلما اقتربنا من الشاطئ، حيث ترسو الانتفاضة إلى برّ الأمان، وما من شك أن الانتفاضة الفلسطينية، إذا ما أعطيت فرصتها كاملة ولم يقطع عليها أصحاب الأهواء الطريق، ستصل بنا إلى برّ الأمان، وستحقّق أهدافها المرجوة بإذن الله. فقد كان للانتفاضة تأثير مدمّر على الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين، ويكفي في هذه المرحلة من عمرها أنها حقّقت، بما لا يدع مجالاً للشك، توازن الردع الذي كان من أهم أهداف الانتفاضة، بينما هي منطلقة نحو الهدف الرئيس المتمثل في طرد الغزاة المحتلين، فقد استنزفت العدو الصهيوني بشرياً واقتصادياً ومعنوياً ونفسياً، فالهجرة أصبحت لأول مرة في تاريخ الكيان الصهيوني هجرة معاكسة، تتسع دائرتها يوماً بعد يوم، ولأول مرة أصبح الخوف يسكن كلّ قلب صهيوني بشكلٍ ملفت للنظر والتأمل، حتى إنهم من شدة الخوف أصبحوا يفضّلون المكوث في البيوت على الخروج إلى الشوارع لقضاء حاجياتهم أو إلى المتنزهات للاستجمام، وكلّ ذلك يقول بلسان مبين إن الانتفاضة هي الحل، وأنها الخيار الوحيد أمام الشعب الفلسطيني، وأن استمرار الانتفاضة هو السبيل الذي يمكن أن يصل بنا إلى ما نصبو إليه من أهداف. ففي خبرها الرئيس عن الانتفاضة كتبت يديعوت 28/9/2003 : >وعلى مدى آلاف سنين وجود الشعب اليهودي، كان التفاؤل جزءاً من الكينونة القومية. والدعوة السنة القادمة في القدس المبنية بدت كأنها تخرج من أعماق اليأس. غير أنه في السنوات الثلاث الأخيرة التي تضرّرت فيها حياتنا، طمس الأمل و دفن التفاؤل. استطلاع نشرته يديعوت احرونوت عشية رأس السنة كشف النقاب عن أن 43 % من (الإسرائيليين) يعرفون أنفسهم كيائسين، و 73 % يشعرون أنه ليس للجيل الشاب مستقبل أفضل مضمون في دولة (إسرائيل)< ... ثم أضافت : >التشاؤم، الاكتئاب وانعدام الوسيلة، صارت أنشودة محلية<... وأما عن الأضرار التي ألمت بالاقتصاد، فكتبت: >الخسائر المادية : 75 مليار شيكل (17 مليار دولار). من الصعب حساب الضرر الاقتصادي، ولكن التقدير هو أنهم في كلّ سنة انتفاضة خسرت (إسرائيل) بالمتوسط 25 مليار شيكل (7,5 مليار دولار)، مستوى المعيشة انخفض بأكثر من 6 في المائة<. ولقد وضعت أقوال بورج التي تزامنت مع رحيل العام الثالث للانتفاضة الباسلة النقاط على الحروف، وأزالت الغشاوة عن العيون، فهل يفهم دعاة الاستسلام مضامين كلمات بورج ؟! أم أنهم سيبقون سادرين في غيّهم لا يلوون على شيء إلا الركون إلى الوعود الأمريكية الفضفاضة الكاذبة المخادعة، واعتبار المفاوضات الصهيونية العقيمة خياراً استراتيجياً، وهي التي بات واضحاً أنها تشكّل في حدّ ذاتها هدفاً استراتيجياً للصهاينة، وأقوال بورج لم تكن تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني، ولكنها كانت قراءة حقيقية لواقع الكيان الصهيوني، وهو بهذا المقال إنما يدقّ ناقوس الخطر الذي يهدّد مستقبل هذا الكيان الذي قام على الغصب والعدوان، وأنا على ثقة أن ما يتحسّسه بورج من خطر يتحسّسه شارون أيضاً، إلا أن شارون لا يملك من الشجاعة ما يجعله يحذو حذو صاحبه فيبوح بالحقيقة التي باتت تلاحقه وتحيل حياته إلى كابوس ثقيل. إن ما قاله بورج هو ما نعتقده اعتقاداً جازماً، ولا نشك في صحة ما ذهب إليه من مخاوف على مستقبل كيانه، واهتمامنا بهذا المقال لم يأتِ من زاوية أنه جاء بجديدٍ على مفاهيمنا، ولكن اهتمامنا كان سببه أن صاحب المقال رجل صهيوني مخضرم، ولم يكن نكرة في الحركة الصهيونية، فهو رئيس الكنيست ما بين عام 1999 وعام ,2003 وهو الذي نافس على رئاسة حزب العمل أي أنه كان قريباً من الوصول إلى رئاسة الوزراء، فهو إذن من الصف الأول في القيادة الصهيونية، ومن هنا كان لمقاله معنى، ولا يشكّك أحد من الصهاينة في قدراته العقلية، ولا يطعن أحد في انتمائه وولائه الصهيوني. فماذا يقول هذا القائد الصهيوني أبراهام بورج يقول (الكيان الصهيوني على شفا الانهيار) ويؤكّد قائلاً: (العد التنازلي لنهاية المجتمع الإسرائيلي قد بدأ) ثم يقول: (إن الجيل الحالي قد يكون الجيل الصهيوني الأخير). من جانبنا نؤمن أن هذا الكيان سينهار آجلاً أم عاجلاً، لأن انهيار هذا الكيان الصهيوني حتمية قرآنية، وقد توفّرت أسباب الانهيار كما جاءت في القرآن في هذا الكيان المفسد الظالم، فمن أهم أسباب هلاك الأمم الفساد والظلم، فقد جاء في كتاب الله (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (النمل:25) وجاء أيضاً (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل:14) وذلك لأن الله قضى في كتابه قائلاً (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس:81) . فإنشاء هذا الكيان كان يشكّل قمة الظلم والفساد، حيث إن الصهاينة جلبوا اليهود من جميع أنحاء العالم ليستوطنوا فلسطين، ولتحقيق ذلك قاموا بطرد أصحابها الشرعيين، وارتكبوا في سبيل ذلك مذابح بشعة يندى لها جبين البشرية، ثم تمادى الصهاينة في الظلم فها هم يذبحون الشعب الفلسطيني لأنه يرفض الاحتلال ويرفض بيع الوطن، ويأبى المساومة عليه، ويتهمون المقاومة الفلسطينية المشروعة التي تسعى إلى الحرية والاستقلال بالإرهاب، ومن أهم مظاهر الظلم والفساد أنهم يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ بدم بارد، حيث يقصفون البيوت بالطائرات المقاتلة فيدمّرونها فوق رؤوس ساكنيها، ومن أشكال الظلم والفساد الذي يمارسه الصهاينة اقتلاعهم للأشجار، وردمهم للآبار، واغتصابهم أراضي المزارعين الفلسطينيين بقوة السلاح ليقيموا عليها مغتصباتهم، ومحاصرتهم الشعب الفلسطيني وحرمانه من الطعام، بل وحرمانه من الحياة، بعد أن سلبوه أمنه ولقمة العيش، وإذلاله في برنامج يومي على الحواجز وفي الطرقات، ومن مظاهر الفساد العمل على نشر الرذيلة وسط الشعب الفلسطيني، ومن جرائمهم اللاإنسانية إسقاط الأطفال في الشهوات، وتصويرهم من أجل ابتزازهم لإسقاطهم في أوحال العمالة، ومن أشكال الظلم والفساد الذي يمارسه هذا الكيان الصهيوني التحريض المستمر على دولنا العربية والإسلامية، فالكيان الصهيوني كان من وراء إعلان الحرب على العراق من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي باتت في ورطة حقيقية من وراء التحريض الصهيوني الذي لم يتوقّف لحظة، وها هم اليوم يحرّضون على باقي دولنا العربية والإسلامية. ولم يخفِ بورج الأسباب التي دعته للتبشير بانهيار الكيان قريباً، فقال: (إسرائيل تقوم حالياً على الفساد والظلم)، وأضاف قائلاً: (الحكم فيها لمجموعة من الفاسدين منتهكي القانون)... وأكّد قائلاً: (إن دولة بلا قانون لا يمكن أن تعيش)، وقد بيّن بعض أشكال الظلم والفساد الذي يمارسه هذا الكيان المسخ، فقال: (لقد اعتدنا تجاهل معاناة النساء على الحواجز، ولا نتعجّب من أننا نسمع صرخات النساء اللاتي يتعرضن للإساءة، أو أنين الأم التي تكافح من أجل دعم هوية أبنائها) كما ذكَّرَ بحقارة ما يقوم به شارون من اغتيالات جبانة بحق أبناء الشعب الفلسطيني، مما يؤدّي إلى قتل العشرات من أبناء الشعب الفلسطيني بواسطة الطائرات والدبابات والصواريخ الذكية منها والغبية فيقول: (من الممكن أن نقتل كلّ يوم ألف زعيم، ولكن ذلك لن يقدّم شيئاً لأن هؤلاء الزعماء قادمون من أسفل... من آبار الكره والغضب من البنى التحتية للظلم والفساد الأخلاقي). ولا يسعني بعد سماعي ما قاله بورج وما كتبته يديعوت وما أراه على أرض الواقع إلا أن أقول كل التحية لانتفاضة عملاقة في وجه كيان ممسوخ. عبد العزيز الرنتيسي