في النجف الأشرف وإثر انفجار سيارة مفخخة أمام ضريح الإمام علي رضي الله عنه، بعد أداء صلاة الجمعة، لقي أكثر من عشرات الأشخاص مصرعهم وجرح أكثر من 229 آخرين قتل بينهم المرجع الشيعي آية الله محمد باقر الحكيم، الذي يرأس مجلس الثورة الإسلامي، وكان قد عاد إلى العراق في ماي الماضي من منفاه بإيران، حيث دام مكوثه فيها 23 عاما، وذلك بعد سقوط نظام صدام، الذي سبق وأن أصدر حكما بالإعدام في حق السيد محمد باقر الحكيم لمعارضته الشديدة لما كان يعتبره نظاما طاغوتيا. هذا الحادث، الذي لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عنه، من شأنه أن يؤزم الأوضاع أكثر بالعراق، خصوصا وأنه استهدف شخصية تتمتع بشعبية كبيرة لدى الشارع العراقي، إلى درجة جعلت البعض يصفه بخميني العراق، وقد بدا بالفعل غضب جزء كبير من هذا الشارع، من خلال خروج العديد من المظاهرات، في أنحاء متفرقة من البلاد، وبالنجف الأشرف، كلها تندد بهذا العمل العدواني ومتوعدة بالإنتقام للشهيد رقم 63 في عائلة الحكيم، والذي كانت حياته مليئة بالإنجازات العلمية والسياسية. ردود الفعل التي تلت اغتيال آية الله محمد باقر الحكيم جاء أبرز رد فعل من طرف إيران، التي أعلنت الحداد لمدة ثلاثة أيام. كما دعا مرشد الجمهورية إلى اجتماع مجلس الأمن القومي بموازاة اجتماع المجلس الحكومي، الذي خصص لدارسة تداعيات هذا الحادث على المنطقة. واستنكر كبار علماء الشيعة والسنة على السواء هذه الجريمة، معتبرين إياها محاولة لزرع الفتنة الطائفية وتمزيقا لوحدة الوطنية. كما دعا مجلس الحكم الانتقالي على لسان أحمد الجلبي الولاياتالمتحدةالأمريكية لتحمل مسؤولياتها الأمنية. في حين أصدر تنظيم المقاومة الإسلامية بيانا حمل فيه المسؤولية للولايات المتحدةالأمريكية باعتبارها وحدها المسؤولة عن الملف الأمني، هذا الموقف نفسه صدر عن الشيخ محمد حسين فضل من لبنان الذي قال إن المشكلة في الاحتلال، الذي انشغل في الدفاع عن جنوده وتحقيق الأمن لهم، ولم يهتم بالأمن في العراق كله. واختار مجلس الثورة الإسلامي في شخص ابن شقيق الشهيد الحكيم عمار الحكيم تحميل المسؤولية لما أسماه بأزلام النظام السابق، الذين مازالوا في نظر السيد بيان جبر، عضو مجلس الثورة العراقي، يحتفظون بحجم كبير من المتفجرات أعطيت الأوامر بنقلها إلي البيوت مباشرة بعد سقوط النظام، هذا وقد قرر المجلس إقامة عزاء رمزي لمدة سبعة أيام، وللإشارة فإن تشييع جنازة الشهيد كان رمزيا نظرا لعدم التمكن من العثور على رفاته. لماذا استهدف محمد باقر الحكيم ؟ اعتبر آية الله محمد باقر الحكيم رقما صعبا داخل المعادلة العراقية، نظرا للدعم الجماهيري الذي يتمتع به، ويمكن ملاحظة هذه القضية بوضوح في الحشود الكبيرة التي كانت تتقاطرت من كل مناطق العراق على النجف الأشرف قصد أداء صلاة الجمعة معه، ولم يكن هذا الأمر خاصا بالشيعة، بل شمل السنة أيضا،.مما يعني أنه كان محط وفاق وشبه إجماع من طرف العراقيين، ولم يكن سماحته غافلا عن هذا المعطى، بل سعى إلى استثماره بشكل جيد في حل بعض الخلافات التي كانت تنشب أحيانا بين الأكراد والشيعة من جهة، وبين الشيعة والسنة من جهة أخرى، محاولا رأب الصدع ما أمكن. كما أن أنشطة هذا المرجع الديني تميزت ببعدها الاستراتيجي، حيث قام مؤخرا بعدة زيارات، شملت نوادي الفتيات وبعض المراكز الرياضية للشباب، مما يدل على رغبته في استثمار كل الطاقات البشرية والحيوية من أجل بناء عراق الغد. ولكن أهم موقف ميز الشهيد محمد باقر الحكيم في آخر حياته، دعوته للنضال السلمي وعدم الدخول في مواجهات مع قوات التحالف، وهو أمر غيرمألوف من علماء المسلمين في مثل هذه الظروف، وهذا إن دل على شىء فإنما يدل على الحنكة السياسية التي كان يتمتع بها، والتي رمى من خلالها إلى استنفاذ الطرق السلمية أولا عوض الاندفاع غير المدروس، هذا القرار جاء نتيجة لاستقراء موازين القوى، والتي هي حتما ليست في صالح الشعب العراقي، الذي ظل بحاجة إلى الحد الأدنى من الدولة ومؤسساتها من أجل تأمين الاستقرار المادي والنفسي. وكان باقر الحكيم رحمه الله في طليعة المقاومين، ولكن ليس بأسلحة تقليدية، إذ اعتمد أسلوب المناورة عوض المواجهة، وربما تكون طريقته هاته أخطر على الاحتلال من أسلوب المواجهة المسلحة، خصوصا إذا علمنا أنه كان يسيرعلى خطى الخميني، الشيء الذي تؤكده مجموعة من القرائن، وكذا الدعم الذي قدمه لإيران لمدة طويلة، لهذا لا غرابة في أن يكون مستهدفا من قبل مجموعة من القوى التي لا يمكن بحال أن تسمح بتكرار التجربة الإيرانبة على أرض دجلة والفرات. ياسين الطلعاوي نبذة من حياة الشهيد آية الله محمد باقر الحكيم مولده ودراسته ولد الحكيم في الخامس والعشرين من جمادى الأولى عام 1358 ه 1939م في مدينة النجف الأشرف مركز المرجعيّة الدينيّة ، والده هو آية الله العظمى السيد محسن الطباطبائي الحكيم. وآل الحكيم من الأُسر العلوية التي يعود نسبها إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهي من العوائل العلمية، وقد برز منها علماء عُرِف منهم في أوائل القرن الرابع عشر الهجري ، العالم الأخلاقي السيد مهدي الحكيم، والد الإمام السيد محسن الحكيم. نشأ باقر الحكيم في أحضان والده، حيث التُقى والورع والجهاد، وفي مثل هذا الجو العابق بسيرة الصالحين كانت نشأته، فكان خير خلفٍ لخير سلف. تلقى علومه الأولية في كتاتيب النجف الأشرف، ثم دخل في مرحلة الدراسة الابتدائية في مدرسة منتدى النشر الابتدائية، حيث أنهى فيها الصف الرابع، ونشأت عنده الرغبة في الدخول في الدراسات الحوزوية بصورة مبكرة. بدأ بالدراسة الحوزوية عندما كان في الثانية عشر من عمره، وكان ذلك سنة 1370ه، حيث درس عند مجموعة من أساتذة الحوزة العلمية في النجف، والذين اشتهر منهم على الخصوص آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي، وآية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر. نبوغ علمي منذ الصغر عُرِف باقر الحكيم منذ سنّ مبكرة بنبوغه العلمي وقدرته الذهنية والفكرية العالية ، فحظي باحترام كبار العلماء والأوساط العلمية، كما نال في أوائل شبابه من آية الله العظمى الشيخ مرتضى آل ياسين شهادة اجتهاد في علوم الفقه وأصوله وعلوم القرآن، وذلك في عام 1383ه . وبعد أن نال سماحته مرتبة عالية في العلم بفروعه وفنونه المختلفة، مارس التدريس لطلاب السطوح العالية في الفقه والأصول، وكانت له حلقة للدرس في (مسجد الهندي) بالنجف الأشرف، فتخرج عليه علماء انتشروا في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. ومع ذيوع صيته العلمي وافق المرجع السيد محمد باقر الصدر على انتخابه عام 1964م ليكون أستاذاً في (كلية أصول الدين) في علوم القرآن والشريعة والفقه المقارن، وقد استمر في ذلك النشاط حتى عام 1975م ( 1395ه ) حيث كان عمره حين شرع بالتدريس خمسة وعشرون عاماً. من مؤلفاته : علوم القرآن الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق الهدف من نزول القرآن أهل البيت ودورهم في الدفاع عن الإسلام دور الفرد في النظرية الاقتصادية الإسلامية حقوق الإنسان من وجهة نظر إسلامية النظرية الإسلامية في العلاقات الاجتماعية منهج التزكية في القرآن المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن الظاهرة الطاغوتية في القرآن. كان للفقيد دور كبير في إنشاء مؤسستين إسلاميتين عالميتين هما المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، والمجمع العالمي لأهل البيت. كما بادر سماحته إلى تأسيس مركز دراسات تاريخ العراق الحديث ومقره في مدينة قم الإيرانية، وقام بتأسيس مؤسسة (دار الحكمة)، التي تضم مدرسة دينية حوزوية ومركزاً للنشر، ومركزاً آخر للبحوث والدراسات، ومكتبة علمية تخصيصية. حركته السياسية وعلى الصعيد السياسي، فقد دخل باقر الحكيم رحمه الله منذ البداية في دائرة الاهتمام بإيجاد التنظيم السياسي الإسلامي الذي يكفل إيجاد القدرة على التحرك السياسي المدروس في أوساط الشعب العراقي. وبهدف ردم الهوة بين الحوزة العلمية والشرائح الاجتماعية المثقفة، حيث كان هناك شعور بالحاجة لتنظيم إسلامي يتبنى النظرية الإسلامية الأصيلة المأخوذة عن أهل البيت، ومرتبط بالحوزة العلمية وهمومها ومشاريعها من ناحية، ولمواجهة التنظيمات غير الإسلامية التي أسست على أسس الحضارة الغربية أو الشرقية من ناحية أخرى، وضرورة مدّ الجسور إلى الأوساط المشبعة بالثقافة الحديثة من خريجي الجامعات والموظفين والطلبة والمعلمين وغيرهم، وكذلك التحولات السياسية المهمة في المنطقة عموماً، وفي العراق خصوصاً بعد سقوط الملكية وقيام النظام الجمهوري. وهي الأسباب التي تشكل خلفية اتخاذ قرار تأسيس التنظيم الإسلامي سنة 1958م، الذي شارك فيه باقر الحكيم مع آخرين من العلماء الكبار. استمر مشاركاً في مرحلة التأسيس، وكان يقوم فيها بدور فكري وثقافي بشكل عام، وتنظيمي بشكل محدود لمدة سنتين، إلا أن ظروفاً موضوعية أملت عليه أن يترك العمل داخل الإطار الحزبي، حيث كان ذلك عام 1380ه، وأن يتخصص للعمل الجماهيري بقيادة المرجعية الدينية، وعلى الرغم من تركه العمل الحزبي، إلاّ أنه بقي على علاقته بالعمل السياسي المنظم على مستوى الرعاية والإسناد والتوجيه. وكان سماحته قد مارس في حياة والده الإمام الحكيم دوراً مشهوداً في دعم وإسناد الحركة الاسلامية بكل فصائلها، وقد اتصف السيد الحكيم في نشاطه السياسي بالإقدام والشجاعة والجرأة والتدبير. جهاده خارج العراق منذ اللحظات الأولى التي تمكن فيها الحكيم من الخروج من العراق عام ,1980 توجه نحو تنظيم المواجهة ضد نظام صدام، وتعبئة كل الطاقات العراقية الموجودة داخل العراق وخارجه من أجل دفعها لتحمل مسؤولياتها في مواجهة هذا النظام. وبعد مخاضات صعبة، أسفر النشاط المتواصل والجهود الكبيرة للسيد الحكيم عن انبثاق ( المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ) في أواخر عام 1982م 1402ه، وانتخب سماحته ناطقاً رسمياً له، حيث أوكلت له مهمة إدارة الحركة السياسية للمجلس على الصعيد الميداني والإعلامي وتمثيله. ومنذ عام 1986م أصبح سماحته رئيساً لهذا المجلس، الذي كان يتحمل مسؤوليته إلى وقت مقتله بكل جدارة ، وذلك بعد انتخابه للرئاسة وبصورة متكررة من قبل أعضاء الشورى المركزية.