لم يزل الداعية إلى الله تعالى يروي معاني الشوق في نفسه حينا بعد حين ، من بعد صدعٍ بترك الخمول والتغطي ! ، وقد حاز بسلوكه طريق الدعوة على لقب أهداه له الحسن البصري رحمة الله عليه حين وصفه بأنه " حبيب الله " ( 1 ) ؛ إن هو لزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... والداعية الحريص على نجاته ، الطالب للارتواء الحقيقي وليس المتتبع للسراب ليجهد نفسه للحصول على هذا " القدح المعلى " العالي الرفيع ، الذي يرتفع به فوق ! بقدر ما ارتفع هو له ومد له الأيادي ، فلا تطاله أيادي أهل السفول ، ولا خواطرهم ، فضلاً عن تفكيرهم واهتماماتهم وأعمالهم الخفيضة . روحُ الدين ولُباب القُرب كلها ، ومهماز العمل الدقيق في القلوب ، وأساس أي داعٍ لله تعالى .. هو هذا " القدحُ المُعلى " .. فإن غاض ، أو جف ، أو تضائل ، لم يبق إلا السراب ؛ الذي يُخدع به المرء أحياناً فيظنه ماءً ! . وبفقده إياه لم يعد ثمة شي يستحق الاحترام لا في الدنيا ، ولا في الآخرة. بل إن جفاف هذا القدح في نفس الداعية يمسيه ممتلئاً بالأهواء والنزوات ، ويصبح المرء مرتوياً من ضروب كثيرة من العوج النفسي ، والالتواء الخلقي ، والتعرج العملي، إذ " القدحُ المُعلى " هو جادة الصراط المستقيم ، في النفس والخلق وفي العمل على السواء ، فإن جف باتت هذه الثلاث مصدراً للنفرة والاشمئزاز . وقد تُغص ميادين الدعوة ويتقلب فيها أقوامٌ يجعلون ربهم سبحانه وتعالى آخر ما يُرعى ويُرغب ؛ لأن الأمر عندهم لا يعدو أن يكون حرفة تُدِرِّ رِبْحاً ، وتُبرِز اسماً ، وتُعلي رسماً ! . صحيحٌ قد يتحقق للمرء ربحاً واسماً ورسماً وإن خفت روحه من " القدحُ المُعلى " لكنه الاخضرار الآني السريع مهما طال في نظره ثم لا يلبث إلا أن يجف وتذروه الرياح ، فهذا حمدون بن أحمد يعطينا فقه الاخضرار والاصفرار الذي نقول ، فقد قيل له رحمه الله : " ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا ؟ قال : لأنهم تكلموا لعزِّ الإسلام ، ونجاة النفوس ، ورضا الرحمن . ونحن نتكلم لعزِّ النفوس ، وطلب الدنيا ، ورضا الخلق " ( 3 ) .
أرشدنا رحمه الله تعالى بأنه عندما يجف قدحنا العالي في نفوسنا وقلبونا ، ترتكس المعاني ، ويمسي " العزِّ " للنفس لا لدين الله ، دين الله على عظمته يُبدل بنفس ! . وينقلب معنى الخوف من أهوال الآخرة وشدائدها إلى طلبٍ وضيعٍ للدنيا ، ويخدر طلب رضا ذي الجلال والكمال ليحل مكانه رضا الخلق الناقصين ! . شتان بين خُضرة نضرة تُروى بها رياض القلوب والأبصار ، وبين صفرةٍ خادرةٍ جافةٍ هشةٍ ما تلبث أن تطير إلى سفول .
§ أشواك .. تُدمي وتُهلك !
إن المرائي سُبَّة في جبين الدين ، وآفة جائحة في الدعوة ، ومرض في الجماعة ، لا يقطع هدفاً ، ولا يحقق مبتغى ، يستفيد منه غيره وهو الهالك ، وينجو به الناس وهو الخاسر ، ويدخل به أقواماً للجنان ، ويناله من رياءه قعر عميق . بل من الأوائل ! إن أول من تسّعر بهم النار ؛ عالم ومجاهد وكريم : يؤتى بعالم فيقول الله : أما علمتك العلم ؟ قال: بلى يا رب ! فيقول : ماذا فعلت ، والله أعلم ؟ قال : علمت الجاهل وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فيقول الله : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الله : إنما تعلمت ليقال عالم ، خذوه إلى النار ، فيسحبونه على وجهه حتى يلقى في النار ، ويفعل بالمجاهد المرائي والكريم المرائي كذلك .. ( 4 ) . يا لها من جفلة للقلب حين يرى هذه الصورة المروعة لكل الكيان ، تجعل العيون تذهل من مدامعها ، والفؤاد يرجع هلعاً من مناظرها ، حتى أن معاوية بن أبي سفيان رضوان الله عليه لما سمع الحديث بكى حتى مرّغ وجهه في التراب ، وقال صدق الله: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }هود:15-16 .. كل أولئك من جفاف وانعدام هذا الترياق المبارك .. هذه أشواك الآخرة ، ومن أشواك الدنيا ؛ ما يرشدنا له الإمام علي ابن أبي طالب رضوان الله عليه ، أنه ذكر فتناً تكون في آخر الزمان ، فقال له عمر : متى ذلك يا عليّ ؟ فقال : إذا تُفقِّه لغير الله ، وتُعُلِّم العلم لغير العمل ، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة " . ( 5 ) فهي الفتن في الدنيا أشواك أخرى تسبق أهوال القيامة ، ولنا أن نتأمل اليوم أنواع الفتن وضروبها وتشعبها ، ابتداء من الفتنة في النفس والذات ، ووصولاً إلى الفتنة في آفاق الأمة الكبيرة ، و يا لها من أشواك هذه الفتن ؛ فقد أدمت النفوس ، وأنّ لها كتف الدعوة ، وأهريق منها رحم هذه الأمة المباركة ، ومن أبرز أسباب هذه الفتن وتلك ، هو جفاف هذا " القدحُ المُعلى " .
§ أزهار ... دعوية
ولا تتوقف عين الداعية إلى الله على مناظر تلك الأشواك المرعبة ؛ التي أدمت فكره وخاطره وغاصت في بنان نفسه ، بل في الكون جمال وأزهار ، وفي الدعوة حقول زاهية ، وسهول وافرة ، تدفعه للتأمل والجلوس مع الذات ، ومراجعة نفسه وما تحوزه من هذه الورود اليانعة . v عن أبي سعيد الخدري رضوان الله عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع : " نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها ، فرُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيه ، ثلاثٌ لا يُغَلُّ ( 6 ) عليهن قلبُ امرئ مؤمن : إخلاص العمل لله ، والمُناصحة لأئمة المسلمين ، ولزوم جماعتهم ، فإن دعاءهم يُحيط من ورائهم . " ( 7 ) فالإخلاص مورد من موارد أداء الأمانة على وجهها الأتم ، وينبوع من ينابيع سلامة الصدر من الحقد والشحناء ، وأي قلب تشرب هذه المعاني بالإخلاص فأنّا أن تصيبه الفتن بحول الله وهل غالب الفتن إلا من خيانة الأمانة ، أو من حقد وتباغض بين أهل الإسلام ، وأهل الدعوة ، وأمة الاستجابة . v وزهرة النصر والحفظ للأمة تأتي من هذا القدح ؛ قال عليه الصلاة والسلام : { إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها ؛ بدعوتهم ، وصلاتهم ، وإخلاصهم . } ( 8 ) v وزهرة زيادة الخير ، ورفعة الدرجات ؛ قال عليه الصلاة والسلام لسعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه : { إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله تعالى إلا ازددت به خيراً ، ودرجة ورفعة } ( 9 ) هذا هو " القدحُ المُعلى " وما يزرعه في القلب ، يحرص عليه الداعية " حبيب الله " ليزداد بهذا الحب جمالا على جمال . § اقبل باقة .. رُقَّية حين يجمع الداعية المبارك هذه الأزهار ؛ فلا حقد ، ولا خيانة ، بل رفعة في الدرجات ، وانتظاراً للنصر ، يكون قد حاز باقة من المعاني العالية ، تزيده رقية العابدة جمالاً في باقته حين تقول : { تفقهوا في مذاهب الإخلاص ، ولا تفقهوا فيما يؤديكم إلى ركوب القلاص } . ( 10 )
وصدقت رحمها الله فإن فقه معاني الإخلاص هو الذي يقود للمعالي ، وليس التفقه فيما يوصل للبروز والتعالي ، والفقه العالي يطوي في جنباته كل الخير ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق { .. إلا ازددت به خيرا ، ودرجة ورفعة } فالخير كله مطوي ها هنا ، والرفعة والعلو لن تكون إلا به ، ومسكين من طلبها دون ارتواء من " القدحِ المُعلى " ، ونجيب هو " حبيب الله " من ارتوى وقرّب هذا القدح في كل وقت من شفاه قلبه وفكره وعمله وسلوكه ، فيزداد مع الحب رفعة ودرجة ، وتنهال عليه الفتوحات ، كأنه لم يكن يتذوقها .
§ ثكلتك أمك ..! قد يتطرق للداعية إلى الله تعالى بعض عجب وغرور من هذه المعاني التي تشربها ، يدله على علاج ذلك طلحة بن عبيد الله رضوان الله عليه قال : " خرج عمر ليلة في سواد الليل ، فدخل بيتاً ، فلما أصبحتُ ذهبت إلى ذلك البيت ، فإذا عجوز عمياء مُقعدة ، فقلتُ لها : ما بال هذا الرجل يأتيك ؟ فقالت : إنه يتعاهدُني مدة كذا وكذا ، يأتيني بما يُصلحني ، ويخرج عني الأذى . فقلتُ لنفسي : ثكلتك أمك يا طلحة ، أعثرات عمر تُتبع ؟!! . " ( 11 ) والعجب آفة التفقه ، وقريب من الجديد في طريق الدعوة ، ربما تتسارع نفسه إلى الظن بغيره ممن سبقه ، أو ينزل من قدر أعمالهم إذ هو الفقه ! ، فيأتي خبر سعدٍ هذا كأنه تذكير له ووقاية مما يحاذره المرء في طريق الدعوة .
§ توازن ... واعتدال
قد بالغ بعض المتصوفة في مسائل الإخلاص حتى دخلوا بالناس في أمثال الوسوسة ، التي حجبت الكثير من الطاقات ، وأهدرت العديد من الهمم في مرابض هذه الوسوسة العجيبة ، حاربها الإمام أحمد رضوان الله عليه فيما يبثه المحاسبي رحمه الله وقتها ، وحاربها حديثاً الدعاة إلى الله ، لكن لا تزال بعض صور تلك الوسوسة تظهر في بعض المواقف ، والتوازن الحق هو المطلب ، ما بين تلك الأشواك وهذه الزهور يكون التوازن ثم . قال رجاء بن حيوة يقول عن عبد الله بن مُحيريز : إنْ كنتُ لأُعُدُّ بقاء ابن محيريز أماناً لأهل الأرض !! . دخل ابن محيريز حانوتاً بدانق ، وهو يريد أن يشتري ثوباً ، فقال رجل لصاحب الحانوت : هذا ابن محيريز ! ، فأحسِن بيعه ، فغضب ابن محيريز وخرج ، وقال : إنما نشتري بأموالنا ، لسنا نشتري بديننا . ( 12 ) العيش مع مثل هذه القصص السلفية النقية ، يجعل الداعية يتحسس في نفسه دون تلك الوسوسة التي نكره ، فقد ينطلق الداعية من نقد مغالي المتصوفة ويجفل منهم ، ومعه الحق ، لكن في جفلته تلك قد يجد في نفسه بعض تساهل ، وقلة في التدقيق ، فتعيده هذه القصص وأمثالها إلى ما هو الصراط المستقيم . قال الإمام الحافظ عبد الله بن دواد الخُريبي : كانوا أي السلف يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح ، لا تعلمُ به زوجته ولا غيرها . ( 13 ) فكن أخي أماناً لنفسك ، وأجمع باقتك ، وجهز خبيئتك ، ثم لا تزال حبيباً لله .
------------------------------------------------------------------------ ( 1 ) يراجع مقال " أنت حبيب الله " : http://www.alrewak.com/montada/viewtopic.php?p=14734#14734 ( 3 ) صفوة الصفوة 4/122 . ( 4 ) إشارة للحديث الصحيح عن الألباني في صحيح الترغيب 1/13-15 وصحيح الجامع كما في ملحق فتح المجيد ص 572-573 . ( 5 ) أخرجه عبد الرزاق . ( 6 ) من الإغلال : الخيانة في كل شي ، ويروى بالفتح وهو الحقد والشحناء . ( 7 ) قال الألباني رحمة الله في صحيح الترغيب والترهيب 1/5 أنه صحيح . ( 8 ) البخاري . ( 9 ) البخاري ( 10 ) صلاح الأمة في علو الهمة .للعفاني . ( 11 ) البداية والنهاية 7/139 . ( 12 ) ( 13 ) صلاح الأمة في علو الهمة 1/128 .