7 المصالحة مع الشعب (ديمقراطية التنزيل) : بنبذ خطاب الأستاذية في التوعية والأخلاق والفعل، والفضاضة والغلظة والتعالي في الطرح، وعدم استنقاص دور الأمة وتهميش نظرتها، " فالجماهير تختزن تاريخ الأمة وتختزن أجمل ما عرفه التاريخ من صور العدل الإسلامي والمجد الإسلامي، فضميرها ضمير إسلامي"[[1] ]. فليست الحركة الإسلامية المهدي المنتظر، ولا القطب الأكبر، إنما هي أبناء شعب وأحباءه، ظل بعضه، وخاف بعضه، وغاب بعضه، وآمن وثبت الكثير منه. فهي قطعة من فسيفساءه، تفرح لفرحه، وتبيت لوعة وحزنا على ما يلمّ به ويجتاحه. كما أنه اعتراف بقيمة التجربة الإنسانية التي يمكن أن تنساها، أو سنن الظواهر التي لا ينبغي جهلها أو تغييبها، والتي تحملها الأمة في مكنوزها. "فقد تختار الجماهير السكوت والركود والخضوع، حين ترى عدوها قويا..فلا تعمل على مصادمته ولعل في ذلك حكمة التجربة التاريخية حيث تعلمت ألا تدخل في المعارك الخاسرة لأنها تعني أنهارا من الدماء بلا فائدة، ولهذا ترى بحنكتها وبصيرتها أن تنحني أمام العاصفة مؤقتا كما تفعل أشجار الغابة حين يكون في انحنائها تجنبا للاقتلاع والتحطم والتكسير."[[2] ] ومن أبواب هذه المصالحة، توضيح الرؤى والتصورات، وتركيز البديل الكامل والواقعي لكل نواحي الحياة. وتبسيط البرامج والمقترحات، كما كانت رسائل الرسول الكريم (ص) إلى حكام وملوك زمانه وهي مشاريع حياة، لا تحمل أي لبس أو مكر أو غش أو ضباب أو مناورة. كما أن بساطة الإسلام في التوحيد، والتي دفعت بالملايين إلى تقبله، تملي تبنيه كمنهج وقدوة في طرح مبسط وسهل استساغه من الآخر، سواء كان هذا الآخر فلاحا في حقله، أو عاملا في مصنعه، أو عالما في مخبره. فيكون الخطاب ميسّرا على قدر عقل السامع، بعيدا عن المصطلحات الفضفاضة والتزويق غير المجدي للحديث والإنشاء، يقول علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: أُمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم. وتتطلب هذه المصالحة اللطف في المعاملة والإقناع وفن العلاقات العامة (حتى مع السلطة). لما تكلم جعفر بن أبي طالب (رض) أمام النجاشي ليدافع عن فراره وأصحابه، ولجوئه إلى الحبشة طلبا للجوار أمام طلب قريش بإرجاعهم صاغرين إلى بلدهم، قال: ...خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك![[3] ] كما تملي هذه المصالحة فهم وتفهّم حالة الارتقاب التي يبديها هذا الإسلام الفطري، وهذه العاطفة الوهاجة التي أضحت بوادرها ملموسة في الخطاب الشعبي، وفي اللباس الشرعي، وفي ارتياد المساجد، وفي مراودة المعارضة لزخمه الجماهيري[[4] ]. إن هذه العودة المباركة، تضخم مسؤولية اللقاء، وتجعل من العلاقة المنشودة بين هذه الجموع والمشروع الإسلامي الحركي حالة تبنّ متبادل، ومسارا متدرجا وواعيا، يربطه خيط حريري، لا يقبل هذه المرة، لا الشدّة حتى الانكسار، ولا التسيّب حتى الانفلات، بل حزم في المبادئ والثوابت، ورفق في التنزيل والممارسة. مما يجعل هذه المصالحة لا تعني التوظيف المرحلي بل توجب استقلالية هذه الظاهرة عن كل التفاف أو استغلال أو توجيه. كما تفترض هذه المصالحة مع الشعب خطابا تجميعيا غير طائفي، موجها إلى كل أفراده وطبقاته ، يجعل من أعضاء المشروع الإسلامي في منتهاه، كلَّ الجماهير " من يتبنى مشروع التمكين بلا مواربة ومن لا يعرف من الإسلام سوى ركعات فرض تتبعها أحيانا ركيعات نوافل، أو من يعرف الله في رمضان وينساه فيما سواه، المصلي البسيط والصائم الأبسط والحاج المتقاعد..."[[5] ]، دون السقوط في متاهات الشمولية التي تحجم الحديث عن الإسلام على طرف وتعدمه عند الآخرين. إن المرجعية الإسلامية تفرض تواجد هذه الرؤيا الدينية للخطاب، لكنها لا تحتكره لنفسها ولا تكفر أحدا على أساسه. فهذه المرجعية ملك للأمة جميعا، تثبّت الثابت منها، وتجتهد في المتطور فيها، والإسلام الحركي الإصلاحي يمثل تصورا ورأيا من الآراء ومقاربة بشرية من المقاربات، ليس فيها أي أدنى قدسية لبرامجه و لا أدنى عصمة لحامليه. 8 المصالحة مع مؤسسات المجتمع المدني (ديمقراطية التعامل) : ويكون ذلك عبر تأكيد البعد الديني للمجتمع الأهلي، وأن المجتمع المنشود إسلاميا هو مجتمع مدني أساسا لا يغفل عن الدنيا والآخرة. وهو تأكيد لاحق للعلاقة العضوية والمبدئية التي جمعت مؤسساته في التاريخ الإسلامي. فإذا كان بروز فكرة المجتمع المدني في أوروبا مواجها لهيمنة السلطة الدينية ولنموذج الدولة الشمولية، ودحرا لظل الله في الأرض ونقضا للتيوقراطية، لتركيز أبعاد الحرية الفردية والديمقراطية، فإن مفهوم المجتمع المدني كان ملازما للبعد التحضيري والتمديني للرسالة الإسلامية في الحث على نقل أهله من حالة البدو إلى حالة الحضر، وتفضيل هذه على تلك. ولقد طوّق التصور الإسلامي للعلاقة بين الإنسان وربه من جهة، والإنسان ومحيطه من جهة أخرى، بجملة من المبادئ والالتزامات حالت دون تسلط أو استبداد طرف على الآخر. فوحدانية الخالق تمنع أي اعتقاد لتمثيلية سلطة الرب على الأرض، وتنزع عن صاحبها أي مبرر تسلطي. واستخلاف الإنسان وتكريمه يجعلانه مسؤولا فرديا على أعماله، ومتساويا في الحقوق والواجبات. لهذا كان الخطاب القرآني في الشأن العام موجها أساسا إلى المجتمع المدني وليس إلى السلطة السياسية (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط) [النساء 135]، (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) [آل عمران 110]. وقد تعددت هذه الأدوات الوظيفية في المجتمع الإسلامي، وشكلت مؤسسات خارج نطاق الدولة لتكرس هذا البعد المدني في عملية الاستخلاف. ولعل مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الموكلة للجماعة، ووجود مؤسسة الوقف، خيرا دليل لسلطة الجماعة ومدنية الإعمار والاستخلاف. وإذا كان المجتمع المدني يعني وجود تجمعات مستقلة عن سلطة الدولة مع تأكيد هذا السلطة في الشأن العام، فإن عدم مركزية الدولة وتوسعها في التاريخ الإسلامي أديا إلى وجود هذه المجموعات المستقلة من تنظيمات حرفية وطرق صوفية وأوقاف وحسبة، فكانت هذه المؤسسات حامية لأهلية ومدنية المجتمع، بما وفرته من متطلبات ثقافية واجتماعية للمجتمع من مثل المدارس والمكتبات والمستشفيات والفنادق التي سهرت عليها مؤسسات الوقف. وإذا كانت مبادئ التسامح والتعدد وعلو القانون واحترام حقوق الإنسان وتركيز دولة المؤسسات، تمثل العمود الفقري للمجتمع المدني وأسسه المتميّزة، فإنا لا نرى خلافا لها أو اختلافا حولها في النصوص المقدسة، أو في سيرة الرسول الكريم (ص)، رغم ما علا هذا النصوع المقدّس من تأويلات جائرة واجتهادات حائرة فيما بعد، والتي أحدثت التباين بين هذه المبادئ التي حملها المشروع الرسالي وتطبيقاته الأولى، ودستور المدينة صفحة ناصعة منه، وبين ما لحقها في أيام الانتكاسة الحضارية من ترهل وتهميش. ولعل الحركة الإسلامية شابها بعض الخوف من المجتمع المدني نظرا لارتباطه سابقا في التجربة التاريخية الأوروبية بمنطق فصل الدين عن السياسة، وإقصاء الديني عن السلطة السياسية، والذي زاده العلمانيون من أصحاب الديار عندنا، منطق العلمية والعقلانية الذي صاحب هذه التجربة وميّز بها المجتمع المدني، والمفقود حسب نظرهم في الأطروحات الإسلامية. إن هذا الوجس الذي يؤدي إلى معاداة المجتمع المدني، وطرح بديل له من مثل المجتمع الديني، يعتبر ملاذا غير آمن، وخطأ فادحا، يخطوا بالمشروع نحو الانعزال عن واقعه أو مصادمته، أو القفز على حقائقه. فمفهوم المجتمع المدني لا يناقض نصا، ولا يعادي اجتهادا واعيا ورشيدا، وهو حماية للمشروع من أعداءه وحماية للمشروع من نفسه. فليست العلمية نقيضا لأطروحاته، وليست الرؤيا التيوقراطية من سماته حتى يفصل الديني والسياسي، وهو ليس نصا مقدسا، يحمله حفظة معصومون حتى يدعي امتلاك الحقيقة ويدرأها عن غيره، فوجود المجتمع المدني ودولة المؤسسات كفيل بتحصين الجميع من الغلو والإقصاء والاستبداد. وهي عين المصالحة التي يجب على الحركة الإسلامية تنفيذها مع المجتمع المدني دون خوف أو وجس، من خلال اجتهاداتها، وثقافة أفرادها، وممارساتها. إن هذه العلاقة المتميزة التي يبديها الإسلام تجاه المجتمع المدني ومؤسساته، والتي وقع طمسها في بعض فترات تاريخنا، لغلبة منطق الاستبداد والتسلط، والتي محتها لاحقا الهجمة الاستعمارية كلية، مثّلت حسب نظرنا ملجأ وحصنا، ولو قاصرا أو مقتضبا، لاستمرارية دور الجماعة، في التاريخ الإسلامي. وهو مبدأ قائم في حاضرنا، ثابت في تصورنا، وعميق في ماضينا. وليست المناداة به اليوم، إلا عودة إلى الأصول، وتدعيما للثوابت، وتركيزا لمبدئية التصورات. ولقد كان إبراز دور الجماعة، تضخيما لدور الأمة ولمؤسساتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وتعايشا رشيدا مع دور الفرد والدولة لمصلحة الجميع. د. خالد الطراولي مدير تحرير مجلة مرايا باريس -يتبع- ------------------------------------------------------------------------ [1] منير شفيق " حول نظرية التغيير في الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي"، تحرير وتقديم د. عبد الله النفيسي. مكتبة مدبولي، القاهرة، 1989 ص:388. [2] مرجع سابق ص:390. [3] السيرة النبوية لابن هشام حققها سعيد محمد اللحام، المجلد الأول دار الفكر بيروت 1994، ص:285. [4] انظر مقالنا " تحية إلى شعبنا في تونس لمحافظته على دينه وتعلقه بأصالته " مواقع الإنترنت Islam-online, Zeitouna, aqlam-online,Tunisnews, Tunisie2000. [5] انظر بحثنا " الحقيقة الغائبة : خطأ أن يتحزب الخطاب الإسلامي! " مجلة رؤى عدد 10 جانفي 2001.