لقد تكونت في أذهان كثير من الناس صور مشوشة إن لم نقل مشوهة عن الكثير من المفاهيم الإسلامية الأصيلة؛ بسبب استعمالها في مناسبات، ومحافل مختلفة دون مراعات لسياقاتها، وكذلك دون التدقيق في استعمالات الشرع لهذه المفاهيم، ومن هذه المفاهيم الإيمان حيث إن كثيرا من الناس يحسب أن الإيمان هو مجرد الإعلان باللسان، إذ يكفي الواحد أن يعلن بأنه مؤمن، ولكن القرآن الكريم نعى على هؤلاء الذين لم يتجاوز الإيمان أفواههم وهم المنافقون فقال تعالى:»ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمومنين، يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخادعون الا أنفسهم وما يشعرون»سورة البقرة: 9-8. والإيمان أيضا ليس مجرد قيام الإنسان بأعمال وشعائر اعتاد القيام بها، كما يقوم بحاجاته الغريزية، فما أكثر الدجالين والمرائين الذين يتظاهرون بالصالحات، وأعمال البر والخير، وشعائر التعبد، وقلوبهم منكرة لهذا الخير والصلاح وأبعد ما تكون عن الإخلاص لله تعالى قال تعالى: «ان المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله الا قليلا»سورة النساء: 141 ثم إن الإيمان ليس مجرد معرفة ذهنية بحقائقه ودقائقه، إذ هناك الكثير ممن قص علينا القرآن والتاريخ ونرى بعضهم بين ظهرانينا، أنهم عارفون بحقائق الإيمان ولكن لم يؤمنوا، بل هم أكبر أعداء الإيمان قال الله تعالى: «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا»سورة النمل: 13، فحال بينهم وبين الإيمان بما علموه أدواء وأمراض كالكبر والحسد والعجب وحب الدنيا والحرص على المصالح الزائلة فما آمنوا رغم ظهور الحق لهم وهؤلاء مثلهم كمثل الذين قال الله تعالى فيهم: «وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون»سورة البقرة: 145 فالإيمان إذن في حقيقته ليس مجرد قول باللسان ولا عمل بالبدن ولا تفكر بالذهن، ولكن الإيمان إضافة إلى ذلك كله «عمل نفسي يبلغ أغوار النفس، ويحيط بجوانبها كلها من إدراك وإرادة ووجدان. فلابد من إدراك ذهني تنكشف به حقائق الوجود على ما هي عليه في الواقع وهذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحي الإلهي المعصوم. ولابد أن يبلغ هذا الإدراك العقلي حد الجزم الموقن، واليقين الجازم، الذي لا يزلزله شك وشبهة: «إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا»سورة الحجرات: 14. ولابد أن يصحب هذه المعرفة الجازمة إذعان قلبي، وانقياد إرادي، يتمثل في الخضوع والطاعة لحكم من آمن به من الرضا والتسليم: «فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما»سورة النساء: 64، «إنما كان قول المومنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولائك هم المفلحون»سورة النور: 49، «وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم»سورة الأحزاب: 36. ولابد أن يتبع ذلك كله حرارة قلبية تبعث على العمل بمقتضيات تلك العقيدة ولوازم ذلك الإيمان، والالتزام بمبادئها الخلقية والسلوكية والجهاد في سبيلها بالمال والنفس... فالإيمان إذن هو المحرك للإنسان نحو الأفعال والتروك، دقيقها وجليلها، ولهذا وصف الله المؤمنين حقا بقوله جل وعلا:»إنما المومنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولائك هم المومنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم»سورة الأنفال: 2-4. والحاصل مما تقدم أن المفهوم الشرعي للإيمان يجمع الاعتقاد والإقرار والعمل، تعتقد أن لهذا الكون خالقاً ومربياً ومسيراً، وأنه موجود وكامل وواحد، وأن أسماءه حسنى وصفاته فضلى، وأنه خلق الإنسان ليسعده، وأن الدنيا دار فيها يتأهل الإنسان لجنة خلقه الله من أجلها، وأنه أرسل الأنبياء والرسل، وأنزل الكتب، وأنه خلق الملائكة، وأن كل شيء بفعله وقضائه وقدره، هذا هو الإيمان، فالإيمان اعتقاد، والإيمان اعتراف باللسان، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، والإيمان سلوك، أداء العبادات، وضبط الجوارح، وضبط الأعضاء، وضبط الدخل، وضبط الإنفاق، وضبط البيت، اعتقاد وإقرار وسلوك.