أكدت التجربة المصرية مرة أخرى فشل «المقاربة الكمية» للديمقراطية والرهان على سعة القاعدة الشعبية وتجاهل باقي الشركاء مع إغفال طبيعة المرحلة وحساسيتها، وتؤكد أن العملية السياسية مهما كان السياق الذي تتم فيه(الثورة في مصر) ومهما كانت سعة شعبية الأطراف التي تقودها وتتزعمها، لا يمكنها الاستغناء عن مبدأ تقاسم السلط، الذي تهدف العملية الديمقراطية في أصلها إلى تنظيمه بشكل سلمي، وعن مبدأ الضبط الذاتي للقوى المهيمنة عدديا بما يسمح لباقي الأطراف من المشاركة والاندماج في العملية السياسية وفي المؤسسات التمثيلية والتنفيذية. وتقدم تجربة الإخوان المسلمين في مصر و ما لاقته من عقبات، دروسا عملية حول أهمية ضخ «الروح التشاركية» في «الجسم الكمي» للديمقراطية. كما تؤكد أن التوافق لا يمكن الاستغناء عنه حتى في المجتمعات التي استقرت على مشروع مجتمعي وأعراف ديموقراطية فكيف بمجتمعات دخلت للتو في تجربة الديموقراطية وفي تجربة وضع الدساتير من خلال الجمعيات التأسيسية المنتخبة، بعد عقود من الديكتاتورية والانفراد بالقرار. وأظهرت التطورات أن التعاطي الهيمني للإسلاميين في مصر مع الآلية الديموقراطية قاد تجربتهم نحو نفق مسدود حين استمروا في التعويل على منطق الأرقام في حسم المشروع المجتمعي لمصر ما بعد حسني مبارك. وكان واضحا سعيهم نحو السيطرة على مؤسسات الدولة عبر الاستحواذ على مجلسى الشعب والشورى والجمعية التأسيسية ثم تقديم مرشح رسمي للرئاسة وآخر احتياطي! إن طبيعة ردود الفعل السياسية التي أثارها التوجه الهيمني الإخواني في مصر وما نتج عنه من أزمة سياسية لا تؤشر فقط على فشل مشروعهم السياسي أو على تجربة الجمعية التأسيسية بل تنطوي على مخاطر عودة هيمنة الجيش من جديد. فالهيمنة على اللجنة التأسيسية أدخلت البلاد في أزمة سياسية فارقة، تحولت في ظلها اللجنة التي وكل لها وضع الدستور، إلى إطار فئوي معزول عن المجتمع. حيث تلقت اللجنة ضربات قاصمة، أولا بفقدانها تأيدا نوعيا له دلالته السياسية والدينية الرمزية، والمتعلق بسحب الأزهر والكنيسة تأيدهما للجنة وانسحابهما من المشاورات ضمنها. ثانيا، بفقدها بعد التوافق المجتمعي، بع انسحاب ممثلي الأحزاب و النقابات العمالية والمهنية وعدد كبير من الشخصيات العامة والجمعيات الحقوقية والمدنية. وهذه العزلة السياسية التي أصبحت عليها اللجنة، التي انسحب منها قرابة ثلث أعضائها، أفقدها عنصر التوافق المجتمعي المطلوب في إعداد الدساتير. و وضع الأزمة الذي دخلته التجربة احتاج إلى مبادرة منقذة، و يمكن القول إن تدخل القضاء على الخط يأتي في هذا الإطار، حيث قضت محكمة القضاء الإداري في القاهرة الثلاثاء الماضي بوقف تنفيذ قرار رئيس مجلس الشعب بتشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور المصري الجديد. و من شأن قرار المحكمة أن يفسح المجال لإعادة تشكيل اللجنة بما يضمن توافقا مجتمعيا واسعا وقويا، وهو ما يفسر ما نقله موقع جماعة الإخوان المسلمين على الانترنت عن مرشحها في انتخابات الرئاسة، خيرت الشاطر، حيث قال»أحترم أحكام القضاء وأدعو جميع القوى الوطنية إلى الجلوس معا للوصول إلى أفضل الحلول لعبور هذه الأزمة.» لقد أدرك الإخوان أنهم، حتى بعد الفوز برئاسة الدولة ووضع الدستور، سيجدون أنفسهم في مواجهة مكونات المجتمع المدني وفي صفها الأزهر بما يمثله من رمزية دينية، مما يرجح التطور نحو سيناريوهات مأساوية عدة أخطرها عودة عدم الاستقرار أو انقلاب عسكري حين تكون الدولة مهددة بالسقوط، خاصة مع استمرار تراجع الاقتصاد وتدهور الأوضاع الاجتماعية. إن إثارة حفيظة باقي الفاعلين والشركاء في مصر لم يكن فقط بسبب التوجه الهيمني للإخوان، بل أيضا بالتقارب الذي تكرس بين «الإخوان» و السلفيين. لقد عَدَل «الإخوان» عن موقفهم الاستراتيجي القاضي بعدم خوض سباق الرئاسة، و الذي ما فتئت جماعتهم تؤكده، مباشرة بعد ظهور خريطة تشكيلة اللجنة التأسيسية. و تأكد تحالف «الإخوان» مع السلفيين، رغم كل ما ظهر من خلافات وتنافس انتخابي بينهما، وهو تحالف يهيمن على قرابة 70 في المائة من مجلس الشعب كما يهيمن على اللجنة التأسيسية التي سوف تضع دستور البلاد. وليس من الصدف أن يختار مرشح الإخوان للرئاسة مقر الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح ( وهي جمعية سلفية)، لإعلان أول تصريح له حول الشريعة مند ترشيحه من طرف الجماعة، حيث أكد أن «الشريعة كانت وستظل مشروعه وهدفه الأول والأخير وأنه سيعمل على تكوين مجموعة من أهل الحل والعقد لمعاونة البرلمان في تحقيق هذا الهدف،» وهو ما يقربه أكثر من السلفيين. فرغم أن القوى السياسية المصرية وبتأييد الكنيسة القبطية مجمعة على الإبقاء على المادة الثانية من الدستور والتي تنص على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع «بصفتها أرضية التوافق. غير أن تخوفات تلك القوى السياسية أثيرت بسبب طرح بعض التيارات الإسلامية السلفية تعديل هذه المادة لإحلال عبارة «أحكام الشريعة» محل «مبادئ الشريعة». إن انتقال مشروع «الإخوان المسلمين» من مشروع مجتمعي جماهيري واسع إبان الثورة إلى مشروع فئوي ضيق بعدها، نتج بالأساس عن إسقاط التوافق عمليا مع مكونات المجتمع من حساباتهم السياسية بسبب المراهنة على البعد الكمي في العملية الديمقراطية. وهو بعد لا يكفي في مثل الحالة المصرية وفي حالات بناء المشروع المجتمعي. تجربة الإخوان مع الديمقراطية تؤكد حقائق عدة أهمها حيوية تقوية البعد التوافقي و التشاركي الديموقراطي في وضع المشاريع المجتمعية وبناء المؤسسات، وهو ما نجحت فيه تجربة حزب النهضة التونسي بشكل واضح، وهي تجربة تتقاسم الكثير مع التجربة المصرية باستثناء نوع المقاربة الديموقراطية لتدبير التعدد السياسي والأيديولوجي.