قدمت الحكومة مشروع قانون المالية لسنة 2012 في ظروف وطنية ودولية خاصة. فعلى المستوى الوطني، جاء هذا القانون وهو يعاني من عاملين اثنين. الأول متعلق بتوقيت تعيين الحكومة، والذي جعلها في عجالة من تقديم قانون للمالية، أفقدها الوقت اللازم لتقييم الحصيلة الحكومية السابقة والخروج برؤية واضحة شاملة في الإصلاح، تطبع بها قانون المالية لسنة 2012. أما العامل الثاني، فهو مجيئه في مرحلة انتقالية، أراد منها المغاربة أن تترجم قطيعة مع الماضي، وتفتح أفقا جديدا على شتى المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. إلا أنه بقدر ما يجب القيام بالعديد من الإصلاحات الجذرية، يبقى من اللازم أيضا الحفاظ على الاستقرار والاستمرارية كدعامة للثقة اللازمة داخليا وخارجيا في استقرارنا السياسي وتماسك اقتصادنا الوطني. وهو ما يجعل إدارة البلاد في هذه المرحلة أكثر صعوبة، إثر تضارب الأهداف المرحلية، بين ضرورة الإصلاح العميق من جهة، مع ما يستلزمه من محاربة للفساد المستشري في كل المؤسسات، الشيء الذي قد يخلق البلبلة كما يحدث في قطاع القضاء والتعليم والصحة إثر توالي الإضرابات المسيسة، وضرورة الحفاظ على الاستقرار من جهة أخرى، حتى تكون تكلفة التغيير محدودة، ويتمكن الوطن من الخروج من هذه المرحلة بمنهجية قوية في البناء والإصلاح داخليا، وسمعة جدابة في التماسك والاستقرار خارجيا. أما الظروف الخارجية، فتتعلق بالأزمة الدولية التي لا تزال تنخر اقتصاديات الدول المتقدمة، وخاصة دول المجموعة الأوروبية، الشريك الاقتصادي الأول للمغرب، حيث لازالت اسبانيا والبرتغال وإيطاليا تثير مخاوف الأسواق المالية حول مديونيتها. أما اليونان، فإن عقد إعادة هيكلة مديونتها الذي فرضته عليها القوى الأوروبية لأجل إنقاذها من الانهيار أدخلها في مرحلة من التقشف الشامل والأفق القاتم، الذي سيعاني منهما المواطن اليوناني المتواضع بالأساس. إن هذه المعطيات الداخلية والخارجية لا يمكن إلا أن تحد من هامش قدرة الحكومة الجديدة في الخروج بقانون مشروع الميزانية السنوية من إكراهاته الهيكلية، التي تحد من حجم الاختيارات التي تتوفر للحكومة في توجيه عمل الدولة ومؤسساتها. وينضاف إلى هذه المعطيات، تراجع إنتاجية القطاع الفلاحي مع قلة التساقطات المطرية هذه السنة، وهو ما سيخصم نسبة النمو الاقتصادي الوطني بحوالي 1.5. وفي إطار هذه المعطيات إجمالا، فإن القراءة الرقمية لمشروع الميزانية لسنة 2012 تظهر بدون تكلف بأن الحكومة الحالية ورثت وضعية معقدة ومتراكمة من عدم التوازن الهيكلي في ميزانية الدولة. فالأجور ستكلف لوحدها 93 مليار درهم، متبوعة بتكاليف صندوق المقاصة، التي حددها الخبراء في حوالي 81 مليار درهم، ضعف ما تكهنت به الحكومة... وهذين الرقمين لوحدهما يؤكدان أن الميزانية العامة للدولة تعاني خللا هيكليا يصعب معه إيجاد الحلول اللازمة لتوجيه عملها وصرف مجهوداتها نحو المجالات ذات الأهمية الإستراتيجية الوطنية، من قبيل المشاريع الجبارة في البنيات التحتية والتصنيع والإنتاج الفلاحي، أو المشاكل الاجتماعية المستعصية كالفقر والصحة والبطالة. إن المتمعن في هذه الإكراهات الهيكلية المعقدة للميزانية العامة، المحدودة الموارد من جهة، والمتعددة المصارف البنيوية من جهة أخرى، يتفهم تغلب منطق الحفاظ على التوازنات المالية على منطق الاستثمار والبناء في منهجية إدارة ميزانية الدولة وعملها. إلا أنه مع ذلك، من اللازم أيضا التفكير في الأسباب التي جعلت هذه الوضعية لا تتغير على مر السنين، بل سارت نوعا من القواعد الأساسية في الإدارة المالية العمومية على توالي الحكومات.إن الخروج من هذه الوضعية يفرض علينا العمل في اتجاهين، الأول يتعلق بالرفع من موارد الدولة، والثاني بحسن تدبير مصاريفها. الرفع من موارد الدولة يتطلب بناء اقتصاد قوي يدر الضرائب والأرباح، وهو هدف يمكن للدولة أن تتوخاه على المدى المتوسط والبعيد من خلال تفعيل سياسات اقتصادية وإنتاجية فعالة. أما حسن تدبير المصاريف، كأداة لتحقيق نتائج على المستوى القريب، تمكن من خلق هامش تتخلص به الحكومة من الاكراهات الهيكلية لميزانيتها وتفعل به الحلول اللازمة للمشاكل الاجتماعية والنهضوية المتراكمة، فإنه تمت مبدأين لا ثالث لهما، وهما الحكامة والفاعلية. الحكامة التي تمنع الفساد المالي وكل أشكال التبذير واستغلال مقدرات الدولة المحدودة أصلا، من غير حسيب و لا رقيب ; ولعل في تفعيل تقرير المجلس الأعلى للحسابات إحدى الشعب المهمة لتحقيق هذا المبتغى الأساسي في تدبير المسؤولية العمومية. أما مبدأ الفاعلية، فهو الذي سيمكن من تحقيق أهداف عليا وكبرى، بوسائل محدودة ومعدودة، (...) وهنا من اللازم التأكيد على الاحتشاد والتضحية والذكاء كضرورات أساسية للنجاح في هذا الرهان، مما يدخلنا عالم القيم والعبقرية، ويخرجنا من ساحة الحسابات الرقمية.