كثيرا ما أتلقى أسئلة من هذا القبيل: * هل المقاصد تصلح لعامة الناس ويصلحون لها؟ أم أنها خاصة بالعلماء؟ * هل عامة الناس يفهمون المقاصد أم أنها فوق عقولهم؟ * هل العامة يستفيدون فعلا من المقاصد؟ أم أنها مجرد فتنة لهم في دينهم وتدينهم؟ * وسألني مقدِّمُ برنامج تلفزيوني أردني - وكنا في حلقة عن مقاصد الشريعة -: هل يمكن أن نُعَلم مقاصدَ الشريعة لأبنائنا في المدارس؟ * ومنذ نحو عشرين سنة كنت أتذاكر مع أستاذ من كلية الشريعة بدمشق، وتطرقنا إلى تدريس مادة مقاصد الشريعة بالمغرب... فسألته: وهل تدرَّس في كليتكم مادة مقاصد الشريعة؟ فقال لي ما معناه: لقد تدارس أساتذة الكلية هذا الموضوع، وانتهوا إلى أن هذه المادة لا تصلح لطلبة الباكلوريوس (الإجازة)، لأن مستواهم لا يتحملها، ولأنها ستُجَرِّئُهم على الشريعة وتدفعهم إلى التفلسف والانزلاق في فهم أحكامها. لكنهم قرروا إمكانية تدريسها في الدراسات العليا، وما زال الأمر قيد الدراسة قبل تطبيقه... * وتلقيت مرارا من بعض الأساتذة والطلبة الشرعيين تحفظا مفاده: أن ترويج المقاصد يتيح لكثير من الناس سوء استعمالها وتعطيلَ الأحكام الشرعية من خلالها. فلذلك رأيت أن أخصص هذه الحلقة الأولى من حلقات (التقريب لمقاصد الشريعة) للإجابة عن هذه التساؤلات، إجابةً مركبة ومركزة. فأولا: مقاصد الشريعة ليست بالصعوبة التي يتصورها البعض، ويجعلونها بسبب ذلك مستعصية عن إدراك عامة الناس وفوق عقولهم. بل أكاد أقول: إن معرفة المقاصد هي الأسهل - أو الأقل صعوبة - ضمن بقية العلوم الإسلامية؛ فهي أسهل من الفقه، ومن أصول الفقه، ومن علم مصطلح الحديث. وهي أسهل بكثير من علوم اللغة العربية، وخاصة علمَ النحو الذي تعلمناه في المرحلة الابتدائية. طبعا أنا لا أتحدث عن استنباط المقاصد وتقريرها وإثباتها من خلال أدلتها ومسالكها، فذلك - لا شك - شأنُ العلماء المتخصصين المتمكنين، كما هو الحال - مثلا - في استنباط النحو وقواعده من كلام العرب. وقل هذا في سائر العلوم. وإنما الحديث عن تلقي المقاصد وفهمها كما هي مقررة ومحررة عند العلماء. ومع التسليم بأن الاستنباط عموما، واستنباطَ مقاصدِ الشريعة خصوصا، هو من اختصاص العلماء المؤهلين، فإن مما ينبغي التنبيه عليه أن فهم مقاصد الشريعة وأخذها مباشرة من نصوصها وأحكامِها ليس دائما متوقفا على العلماء واجتهادهم واستنباطهم، بل هناك مقاصدُ وحِكَمٌ لا تكاد تخفى على أحد، ومنها ما لا يحتاج إلا لقليل من الاهتمام والانتباه. فهي في ذلك شبيهة بهذه التمار المتنوعة التي أنعم الله بها على عباده، من فواكهَ وخضرٍ وحبوب؛ فإن منها ما هو ظاهر قريب، قطوفه دانية، ومنها ما يحتاج إلى حفر وتنقيب لاستخراجه من باطن الأرض، ومنها ما هو عالٍ فوق نخل وأشجار مرتفعة بعيدة المنال، ويحتاج إلى وسائل للوصول إليه وجنيه... ثانيا: أحكام الشريعة ومقاصدُها ليست من قبيل علم الباطن «المضنون به على غير أهله»1، وليست من العلوم العقلية المعقدة كما هو شأن المنطق والفلسفة ونحوِهما من علوم الخواص، وليست من قبيل علم الكلام الذي يستدعي «إلجام العوام»2. بل هي تهم جميع المكلفين، ويستفيد منها جميع المكلفين، كلٌّ بقدْره. ولذلك فهي لا بد أن تكون قابلة للإفهام والتقريب إلى الأفهام، حتى ما كان منها في الأصل عميقَ الغور بعيدَ المنزع. - فأحكام الشريعة ومقاصدُها يمكن دراستها وتدريسها بأعلى المستويات، وهو مستوى المتخصصين، بِلغتهم ومصطلحاتهم وتدقيقاتهم ونقاشاتهم. - ويمكن عرضها بمستوى متوسط، وهو المستوى المناسب لعامة المتعلمين والمثقفين والطلبة الجامعيين. ويمكن عرضها حتى بمستوى أدنى من ذلك وأيسر، وهو مستوى عامة الناس، ومستوى اليافعين من فتيان وفتيات. وعلى هذا الأساس نفهم العبارة الشهيرة للإمام الشاطبي: «هذه الشريعة المباركة أمية...». أي أنها في متناول فهم الأميين، فضلا عمن فوقهم، وإن كانت الأفهام في ذلك متفاوتة غير متساوية. والمسألة - في مستوياتها الثلاثة - يمكن تشبيهها بالسباحة في البحر، والسباحة في النهر، والسباحة في مسبح أو حوض. المهم أن السباحة يمكن أن تكون متاحة للجميع وفي متناول الجميع. فهكذا الشريعة ومقاصدها. وإذا وجدتَ شيئا لا يفهمه أحد من المكلفين، بأي درجة، فاعلم أنه ليس من الشريعة ولا من مقتضياتها. ثم نحن قد تلقينا دروسا فقهية في مرحلة متقدمة من أعمارنا وتعليمنا، فتلقينا: فرائض الوضوء، ومستحباته، ومكروهاته، ومبطلاته... وتلقينا مثل ذلك وأكثر في بقية الأركان والأبواب الفقهية، كالصلاة والصيام والحج والإرث... فأين ذلك - في صعوبة فهمه وحفظه - من يسر الحديث ووضوحه، إذا ما تحدثنا عن مقاصد الطهارة والصلاة والصوم والحج والمعاملات؟ وقد حدثني بعض الأصدقاء المصريين عن عالم مصري كان يلقي دروسه في المسجد، وكان لا ينفك كلامه عن ذكر مقاصد الشريعة وحِكَمها، ومع ذلك لم ينفَضَّ الناسُ عنه، بل كان الإقبال عليه والتجاوب مع دروسه منقطع النظير. ثالثا: القول بأن ترويج مقاصد الشريعة يتيح لبعض الناس سوء استعمالها، وتعطيلَ نصوص الشريعة من خلالها، هو قول صحيح، لكن الحل ليس في اجتناب المقاصد وطمسها، بل الحل هو نشر الثقافة المقاصدية الصحيحة، وبث الوعي المقاصدي القويم، وترسيخ الاستعمال السليم للمقاصد، كما أصَّلَه وسار عليه الأئمةُ والعلماء الراسخون. هذا مع العلم أن سوء الفهم وسوء الاستعمال - سواء عن قصد أو عن جهل - ليس خاصا بالمقاصد، بل يَرِدُ ويقع في كل العلوم. وحتى القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كثيرا ما يساء تفسيره ويساء استعماله، فهل نمنع التفسير؟ أم نمنع من تدبر القرآن؟ أم نمنع قراءته على «العوام» حتى ننهي المشكل من أصله؟! وأما قول العلامة محمد الطاهر بن عاشور: «وليس كل مكلف بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة، لأن معرفة مقاصد الشريعة نوع دقيق من أنواع العلم، فحقُّ العاميِّ أن يتلقى الشريعة بدون معرفة المقصد، لأنه لا يُحسن ضبطه ولا تنزيله، ثم يتوسع للناس في تعريفهم المقاصدَ بمقدار ازدياد حظهم من العلوم الشرعية، لئلا يضعوا ما يلقنون من المقاصد في غير موضعه، فيعود بعكس المراد»3، ففيه ما هو مسلَّم كالتدرج والتوسع في تلقين المقاصد وبيانها بحسب مستوى المخاطبين بذلك. ومنه ما تقدم الجواب عنه، كتنزيل المقاصد في غير مواضعها..، ومنه ما ستأتي مناقشته بحول الله تعالى في الحلقة القادمة المخصصة لتعريف المقاصد وبيان فوائدها... ========================== على أن تقريب المقاصد ونشر ثقافتها بين عامة الناس يجد أسوته في علمائنا الذين ألَّفوا كتبا بغرض تقريب ما هو بعيد وتيسير ما هو عسير، من العلوم والمعارف النقلية والعقلية، فكيف بمقاصد الشريعة التي ليست - في مجملها - لا بالبعيدة ولا بالعسيرة؟ وهذه عناوين لبعض المؤلفات التي وضعها أصحابها لأجل التسهيل والتقريب: 1. التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جُزَي الغرناطي. 2. تقريب الوصول إلى علم الأصول، له أيضا. 3. التيسير والتسهيل لفهم مدارك التنزيل، لعبد الحكيم الأفغاني. 4. التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير، لابن شرف النووي. 5. التيسير في القراءات السبع، لأبي عمرو الداني. 6. التقريب لحد المنطق لابن حزم الأندلسي. 1 - «المضنون به على غير أهله»، عنوان كتاب ينسب إلى الإمام أبي حامد الغزالي. 2 - «إلجام العوام عن علم الكلام» عنوان كتاب للإمام الغزالي... 3 - مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 188