فرق كبير بين الحملة الانتخابية للوصول لرئاسة الدولة في فرنسا وفي الولاياتالمتحدة الأميركية، ورغم أنها في هذه الأخيرة أطول لأنها تمر من مسلسل من الانتخابات التمهيدية (الإقصائية) بين المتنافسين د اخل الحزبين الكبيرين (الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي) لانتخاب من يمثل الحزب على مستوى كل الولايات، فإنها لا تخلق نقاشا سياسيا كبيرا حول القضايا الداخلية والخارجية بالشكل الذي يتم في الانتخابات الفرنسية، وتكتفي بنقاش سطحي أو لا يمد المتابع بكل المعلومات المطلوبة، فضلا عن سؤال كبير حول مدى صحة المعلومات المقدمة للناخبين التي سيتخذون قرارهم على ضوئها. والسبب الجوهري في اعتقادي أن الانتخابات الأميركية تقام بعقلية تجارية عبر ما يعرف بالتسويق السياسي للمرشحين والأحزاب والاعتماد على كفاءة الفريق الذي يدير الحلمة، وتركز على قوة وفعالية إدارة العلاقات العامة تحديدا. والملاحظ أن الانتخابات الأميركية تعامل الناخب كمستهلك تسعى مختلف الأحزاب لدراسة متطلباته وحاجياته وبالتالي بناء خطاب يستجيب لتلك الحاجيات ويضرب على وترها وتسويق صورة المرشح على أساس أنه قادر على الاستجابة لها بالتركيز على مؤهلاته وقدراته بالاستعانة بأساليب واستراتيجيات التسويق بشكل عام، أو التسويق السياسي بشكل يحول العمليات الانتخابية إلى عملية أقرب ما تكون لمشروع اقتصادي أو تجاري تغيب فيها سلطة القيم وتطارح الأفكار ومقارعة البرامج، والروح المعنوية لأن الحملات الانتخابية بالطريقة الأميركية تجزئ القضايا وتعرضها على شكل إعلانات سياسية تركز كما يقول المختصون على بناء صور ذهنية عن المرشح وحزبه ترفع أسهمه في استطلاعات الرأي دون الاهتمام بمدى قناعة الجمهور وفهمه لما طرح من برامج ومطابقته للواقع المعيش وكيفية تطبيقها وما إلى ذلك من الحيثيات. وللأسف تكرس عموم وسائل الإعلام وتحديدا الخاص منها هذا النهج وتساهم في حملات انتخابية يطبع عليها الجانب الفلكلوري أو «الشو»، دون أن يعني هذا عدم وجود وسائل إعلامية رافضة لهذا الأسلوب في الحملات الانتخابية، وممارستها دور نقدي مهم، لكن تأثيرها يبقى محدودا مقابل الاتجاه الغالب الذي يسعى لصناعة الصور الذهنية أكثر ما يهدف لعكس الواقع كما هو وكيف ينبغي التفاعل معه. الصورة مختلفة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية على مستوى إدارة الحملة الانتخابية سواء لدى الأحزاب السياسية التي تناقش في برامجها القضايا المهيمنة على اهتمام المواطنين وتطرح مقارباتها بعيدا عن اللغة الجامدة لإدارة العلاقة العامة أو أسلوب الترويج للصور الذهنية البعيدة عن حقيقة الواقع، وهو ما يقدم للناخب معطيات تساعده على بناء موقفه وخياره السياسي وإعطاء صوته على أسس سليمة وصحيحة، خاصة بالنسبة لغير المتحزبين والمتسيسين. ويلعب الإعلام الفرنسي عموما دورا كبيرا أثناء الانتخابات، بإعطائها دفعة قوية ومنشطة من حيث فتحه لنقاشات واسعة في مختلف القضايا من خلال برامج سياسية وثقافية ومناظرات بين المتنافسين في القضايا الكبيرة المطروحة، تضفي متعة خاصة على اللحظة السياسية والانتخابية، وبدون مبالغة تقدم مادة غنية بالمعلومات والمعطيات والتحليل بالنسبة لغير المتابعين والمهتمين بالشأن السياسي والانتخابي. باختصار نحن أمام مدرستين سياسيتين إذا صح التعبير تغلب على الأولى قيم السوق، الأمر الذي يجعلها تفقد المحطة الانتخابية الكثير من جاذبيتها الفكرية والسياسية التي ميزتها في السابق، دون تجاهل الدور الكبير للشركات الكبرى ولجماعات الضغط في تسطيح العملية السياسية إذا صح التعبير وقرصنتها لتحقيق مصالحها بأساليبها الخاصة في التحكم والهيمنة على الأحزاب السياسية وبالتالي القرار السياسي، وخاصة من خلال تمويل الحملات الانتخابية، وهو ما نتج عنه نوع من البرود السياسي لدى الأميركيين تجسد بوضوح في حجم المشاركة في الانتخابات الرئاسية قبل الأخيرة. والمدرسة الثانية حافظت على السياسة والنقاش السياسي وحالت بفضل الدور الكبير لوسائل الإعلام دون تحنيطه وتحويل الحملات الانتخابية إلى حملة علاقات عامة لصناعة الصورة وتلميع الأشخاص لا تتوافر معها إمكانية للناخب لبناء موقفه وخياره الانتخابي على معطيات واضحة وحقيقية.