يندرج الإصدار الجديد للمركز المغربي للأبحاث والدراسات المعاصرة، ضمن أداء معرفي متعدد الأبعاد، يرمي إلى التمكن، ولوحدود معينة، من دينامية الحقل الديني وتفاعلاته مع باقي الحقول المجتمعية الأخرى، كما أن ذات الإصدار يؤكد إصرار «الجماعة العلمية» التي تقف وراءه على انهجاس أعلى بِفَهْم وتَفَهُم ما يعرفه المجتمع المغربي من تحولات مُربكة توصف أحيانا بأنها في ظل الاستمرارية وإعادة الإنتاج، مثلما يُستدل عليها أحيانا بأنها تضمر القطيعة والانتقال. لقد صدرت هذه النسخة الجديدة من تقرير الحالة الدينية، في سياق مَخْصُوص ومُنْبَصِم بالصراع على أنماط التدين محليا وعالميا، فثمة أنماط تدينية متنوعة ومتعارضة أحيانا، «تتبارى» في سجلات التبادلات الاجتماعية، وتراهن كليا أوجزئيا على امتلاك «أحقية» الكلام باسم الإسلام، ما يجعل من قراءة تقرير عن «الديني» حاجة قصوى لاكتشاف الرهانات والاعتمالات التي تتفاعل في هذا النسق من الصراع. كما أن التقرير يأتي في ظل احتدام «الهجرة إلى السماء»، ففي ظل الأزمة تتواتر الهجرات الرمزية والمادية دوما، إلا أن الملاحظ في الراهن العربي الإسلامي، هوبروز التيار الإسلامي كعنصر في فاعل في تدبير أزمنة التدافع السياسي «من الماء إلى الماء»، وهوما انْبَرَزَ بجلاء في صعود الإسلاميين إلى دفة الحكم وتصدرهم للمراتب الأولى في عدد من الدول التي عرفت أشكالا مختلفة من الحراك السياسي (مصر، تونس، المغرب...). وفي ظل هذا الصعود الإسلامي، يتوجب إعادة قراءة الظاهرة الدينية بناء على تقارير علمية موثقة بمعطيات محينة، أملا في مزيد من الفهم والتفسير. إن مُعِدي تقرير الحالة الدينية يَعُونَ جيدا أن الحقل الديني أشبه ما يكون برقعة شطرنج، تظل فيها كل حركة، وبغض النظر عن الوضعية المراتبية لفاعلها أوتموقعه في الرقعة، تظل مؤثرة وحاسمة في حال ومآل «اللعبة» الدائرة، فالأمر يتعلق بحقل ملتهب، يستوجب في كثير من الأحيان ما عبر عنه عبد الفتاح كيليطو«بالكتابة بالإبر على آماق البصر»، ولهذا فقد كانوا في «تحقيبهم» للمسألة الدينية بالمغرب خلال سنتي 2009 و2010، أكثر انتصارا للمنهج العلمي وأكثر توثيقا وتدقيقا في الاستشهادات المتفرقة في هذا المتن الغني. ذلك أن أخلاقيات (ديونتولوجيا) إعداد تقرير عن موضوع صعب ومتعب، منعتهم في كثير من الأحيان من إطلاق تعميمات مبنية على حدوس ظنية، أوالدخول في ارتهانات سياسية تخلط بين الذات والموضوع، فقد جاء التقرير مائلا وإلى حد كبير إلى اللغة العلمية الباردة، ومن غير إعلان، لإمكان الكمال أوالاكتمال، فالباحثون في المركز من معدي التقرير وأوراقه يقرون بأنهم منشغلين أكثر بتقديم محاولة، لها ما لها وعليها ما عليها، ترمي بالأساس، إلى تمكين الباحث والمهتم وصانع القرار من نظرة وصفية، لكن ببعد تحليلي وتفسيري، لما يعتمل من أسئلة التدين في ظل مجتمع متحول. جاء البناء المعماري للتقرير متوزعا على خمسة محاور وهي: الواقع الديني في المغرب، الفاعلون الدينيون، تحديات التدين، تفاعلات الديني والسياسي والاقتصادي والثقافي، واليهود المغاربة. وهو بناء مستهدف، يعتمد صيغة المدخلات والمخرجات، بحيث تكون المقدمات مُؤَسِسة لما يستتبعها من عرض واستشكال وتحليل. ما يمنح القارئ المفترض القدرة على الربط بين العناصر، وهواختيار منهجي يتوسل في اشتغاله بالخيار النسقي الذي ارتضاه آل التقرير لعملهم، منذ الإصدار الأول، كما أنه اختيار مبرر بصعوبة الفصل بين أسئلة الدين والتدين وباقي الحقول المجتمعية في اتساقها واختلالها. فالدين والتدين، أشبه ما يكونان بالظاهرة العابرة لجميع ديناميات المشترك الجمعي، والتي تتقاطع وتتفاعل مع مختلف مظاهر الفاعلية الإنسانية. من خلال قراءة أولية، لا تخلومن عسف واختزال بسبب ضيق الوقت، يمكن القول بأن ثمة الكثير من نقاط القوة التي لاحت في النسخة الثانية من تقرير الحالة الدينية، وهي النقاط التي تضع فريق العمل أمام مسؤوليات جديدة، إذ تتطلب منهم مستقبلا (في الطبعة الثالثة) الرفع من إيقاع العمل، بحيث لم يعد لهم الحق في التثاؤب ولا في الخطأ، وعموما يمكن إجمال نقاط قوة التقرير في الآتي: أولا: الارتقاء المعرفي: يبدوأن معدي التقرير تجاوزوا «دهشة البداية» التي ألمت بهم في التقرير السابق، وصاروا أكثر تمكنا من التعامل مع المعطيات الغزيرة التي تتواتر بصدد المسألة الدينية، فالتقرير جاء متقدما ومرتقيا من الناحية المعرفية. ثانيا: الانسجام الموضوعاتي: لقد انتقل التقرير الحالي، مقارنة مع سابقه، من الكتابة بالمفرد إلى الكتابة بالجمع، فإذا كانت الملاحظة القوية على التقرير الأول، هي بروز أصوات متعددة ومتباينة من حيث أسلوب الكتابة ودرجتها العلمية، فإن التقرير الحالي كان أكثر انسجاما في تدبير خطاطاته الموضوعاتية. ثالثا: الصرامة العلمية: الملاحظ أيضا أن النسخة الجديدة من تقرير الحالة الدينية كانت أكثر انتصارا للمنهج المعلن عنه في ممهدات العمل، فدوما هناك انجرار نحوالمقاربة العلمية في العرض والتوثيق والمناقشة، ولعلها نقطة القوة التي ساعدت التقرير على الانتقال من الوصف إلى التحليل والقراءة الواعية لتفاعلات الحقل الديني. رابعا: الثراء المعرفي: جاء التقرير غنيا بالمعلومات التي لا تهم فقط المسالة الدينية والمتدخلين فيها، بل تنسحب أيضا على حقول مجاورة ومتقاطعة، وهوما يمنح التقرير «سلطة» الوثيقة التي تفيد في «التحقيب السوسيوسياسي» للمغرب الراهن من مدخل أسئلة الدين والتدين. هذا بالنسبة لأهم نقاط القوة التي ميزت تقرير الحالة الثانية، أما بعض البياضات والاستدراكات الضرورية، والتي لا تلغي عن التقرير قوته وأهميته، فيمكن توزيعها على إهمال الإنتاج العلمي الجامعي( خصوصا إنتاجات مسالك الدراسات الإسلامية)، وغياب الإشارة إلى بعض التوترات التي شهدها الحقل الديني، تماما كما هوالأمر بالنسبة لاحتجاجات الأئمة والقيمين الدينين، فضلا عن عدم إدراج بعض العلماء الذين صنعوا الحدث، سلبا أوإيجابا، ولأكثر من مرة. ويمكن أن نضيف إلى هذه البياضات المبررة بمحدودية الإمكانيات المادية والزمنية، مسألة الانفتاح على الإسلام الشعبي، ممثلا في ديناميات المقدس الولوي (المواسم والأضرحة..) وكذا الاستراتيجيات الشرفاوية، إلا أنه بالرغم من ذلك كله فإن تقرير الحالة الدينية يظل مساهمة مائزة في «توضيب» صورة واضحة عن المغرب الديني، نقرأ من خلالها تحولات التدين وصراعاته، ونعاين فيها انتقال المسألة الدينية من الهامش إلى المركز، كما نكتشف عبرها التدافع القيمي والسياسي الذي يعرفه المغرب التعددي في أبعاده ومكوناته. ختاما، نقول بأن هذا التقرير الذي استوجب من منتجيه ميزانية إنفاق زمني لا تقدر بثمن، كان النجاح حليفه بفضل قطعه مع ثقافة «الكاست المعرفي» وانفتاحه على مختلف قارات العلوم الإنسانية، ففيه نقرأ صوت عالم الاجتماع والأنثروبولوجي وعالم السياسة وعالم الاقتصاد والقانوني والأديب والحقوقي...فثمة منهج منفتح لا منغلق يرتكن إليه آل التقرير في اشتغالهم، أفادهم كثيرا في مقاربة أسئلة حقل يشتغل بمنطق «رقعة الشطرنج». إن هذا التقرير لا يهدينا ارتياحا مبالغا فيه، بل يحفز على التشاؤل والقلق المعرفي، خصوصا عندما يؤكد في إحدى خلاصاته على أن ارتفاع مؤشرات التدين لم تنعكس كليا على مستويات السلوك الأخلاقي. فهنيئا لنا بعمل مرجعي يصنع السؤال ولا يتسرع في إنتاج الإجابات، فلربما الحاجة إلى السؤال أهم بكثير من إجابات متوفرة بالجملة.