أطلق عليه مهنيو النقل «طبيب السياقة»، منتصب القامة، دقيق الحركات نظيف المظهر، بالرغم اشتعال رأسه شيبا إلا أن حيوته تحيل على رجل في عقده الرابع، رصين، شديد الملاحظة، يختار كلامه بعناية كما يختار ملبسه.«عبد الرحمان بلادي» اسم يحيل على الوطن بكل تجلياته بالترحال والتجوال، بالمعرفة الدقيقة للشعاب والأودية والجبال والسهول: المغرب شرقه وغربه. شارك في المسيرة الخضراء كمتطوع وتبرع بدمه لفائدة الصالح العام وإنقاذ الأرواح، اعتنى بركابه مغاربة منهم وأجانب. *** حطم «عبد الرحمان بلادي» الرقم القياسي في مجال السياقة بتسجيله 62 سنة من السياقة و8 مليون كلم بدون حوادث بل بدون مخالفات لم يدون له قط أي محضر، حاز على أول رخصة سياقة سنة 1949 أي وعمره لم يتجاوز العشرين بعد إبان الاستعمار الفرنسي بمدينة مكناس، تقلب في عدة مهن تربطها رابطة حميمية بالسياقة، اشتغل في الميكانيك وكمساعد سائق وكان أو عمل له كمهني بمدينة خنيفرة مسقط رأسه كسائق لشاحنة من نوع fargot تابعة للمكتب الوطني للنقل ثم عند «موحا البابور» على متن شاحنة دولية لنقل المواد الغذائية بين الدارالبيضاءوخنيفرة، وفي سنة 1956 انتقل للعمل بشركة النقل المكناسي على متن حافلة للنقل العمومي تربط بين مكناس والريصاني يقطع خلالها 500 كلم في اليوم وتستغرق الرحلة 12 ساعة من 2 صباحا الى 2 بعد الزوال. ثم قلب الوجهة إلى مكناس - طنجة وكأن لسان حاله يتوق إلى استنشاق هواء الاتجاهات الأربع وفتح آفاقا جديدة ليستقر به الحال كسائق لشركة «الساتيام» بين سنتي 1964 و1966 الدارالبيضاء ايفران والدارالبيضاءفاس ليعود إلى الشركة الأولى التي احتضنته للعمل سنة 1967 في أطول الرحلات بين المغرب وأوروبا رحلة يقطع خلالها شعاب وأودية وسهول وجبال إسبانيا وفرنسا وايطاليا وسويسرا وهولندا وبلجيكا والبرتغال، رحلة تدوم 40 يوما يواجه فيها حضارات وقوانين خارج حدود بلده على طول 10 آلاف كلم يستودع فيها ركابا أجانب ومغاربة في أمن وأمان متحديا وهن الجسم بعيدا عن طيش الشباب لا يحكمه سوى هاجس قوانين السير والطرقات. وفي سنة 1980 عاد بلادي للعمل بالمغرب لكن هذه المرة لتحتضنه مدينة بني ملال التي جذبته بالإضافة الى العمل لاستقراره وسط أسرته وأبنائه ال 11 فتفرغ لمتابعتهم في دراساتهم ووظائفهم والاطمئنان على انطلاقهم بسلام في الحياة لكن دون أن يفرط في «محبوبته»التي أفنى زهرة شبابه فيها ألا وهي السياقة فعانق مقود حافلات «كاطالا» الشهيرة الرابطة بين بني ملالوالدارالبيضاء ثم شركة أخرى لربط بني ملالوأكادير مدة 12 سنة أخرى حيث عاش واحدة من أهم ذكرياته كمستأمن على أرواح المسافرين يقول «بلادي» فخورا: «عشت سنة 1997 مخاض سيدة داخل حافلتي وأنا في طريقي إلى أكادير كانت سيدة من إمينتانوت قدمت لها كل المساعدات اللازمة حتى أنني أذنت للمولود في أذنيه ثم جمعت مبلغا مهما من الركاب كهدية منهم لمولودها الجديد فالتمسوا منها تسمية مولودها الذكر باسمه «عبد الرحمان»اعترافا منهم لكفاءته وأمانته التي تتعدى أمان السير على الطريق الى العمل الاجتماعي والإنساني داخل الحافلة قبل أن يخلد عبد الرحمان بلادي الى المعاش ومازالت طاقاته طاقة شباب. لم تبخل الجهات الرسمية على «بلادي» بعنايتها المعنوية له فنال شرف التوشيح من قبل محمد السادس سنة 2008 كسائق محترف نموذجي، ثم تكريم وزير النقل عبد الكريم غلاب والإدارة الجهوية للنقل والتجهيز والولاية والقضاء لكن بالرغم من أهمية هذه العناية المعنوية الرسمية مازال «بلادي» يشكل بحسب المهنيين أنفسهم منجما من الدرر لم يتم استغلاله بعد، وحذروا من أن يكون حسرة عليهم إن لم تستغل خبرته في التأطير والتكوين بعد فوات الأوان في زمن تحصد فيه حوادث السير ما لا تحصده الحروب أحيانا. عندما يسأل بلادي عن سر عدم تعرضه لأي حادث سير يرد بعفوية بسيطة» هذا فضل وستر من الله عز وجل ثم إنني أحرص حرصا شديدا على تطبيق قانون السير حرفيا وأحب مهنتي حد الجنون، ولم أستعمل قط أي مخدر في حياتي.» ونبه بلادي المُلقون باللوم على الطرقات أنه بالإمكان تفادي الحوادث إذا أخذ السائق بعين الاعتبار حالة واقع الطرق وسار حسب جودتها احتراما للأرواح البشرية وعدم المغامرة بها.