عجيب أمر هذه الأمة في عصرها الحديث هذا.. لقد حباها الله سبحانه من الثروات الطبيعية، وبخاصة النفط والموقع، ما كان يحتم أن تكون معه أغنى أمة في العالم، ولكن الذي حدث أنها، في المساحات الأوسع من نسيجها، غدت أفقر أمة.. والفقر كما هو معروف سبب الأسباب ومصيبة المصائب من حيث أنه منبع التخلف والجهل والمرض والضعف والهوان. وبمجرد القيام بجملة من الإحصائيات المقارنة في هذه السياقات يتبين الحضيض الأدنى الذي انحدرت إليه هذه الأمة التي أريد لها أن تكون أغنى وأقوى أمة في الأرض. إنها تحس هدر الفرص والطاقات والامكانات المالية، وقد ابتكرت في ذلك طرائق وفنونا ما عرفتها ولن تعرفها أمة في الأرض.. ولكنها لا تحسن توظيف المال، وتصريف الطاقة، واغتنام الفرص المتاحة.. ولن يحابي الله سبحانه أمة تسيء التصرف بما منحها إياه من نعم وخيرات.. حتى لو حبس أبناؤها أنفسهم الليالي الطوال في الجوامع والمساجد يبكون ويتضرعون. وعطاء الله سبحانه كما هو معلوم مفتوح للمؤمن والفاجر، واليد الأقدر والأشطر هي التي ستعرف كيف تحوله إلى أداة للصعود لا وسيلة للتفكك والاندثار: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا). لقد كان من أهم عوامل تفوق اليهودي في العالم قدرته على التعامل مع المال.. صحيح أنه وهو يمارس هذه المهمة، لا يفرق بين الحق والباطل ويعتمد كل أسلوب شريف أو خسيس، ويتذرع بشعار "الغاية تبرر الواسطة".. وصحيح أن اليهودي الذي أشرب في قلبه العجل الذهبي أصبح الذهب معبوده من دون الله فمنحه هذا قدرات أسطورية على التنمية والتكاثر والتوظيف، إلا أن مما لا يناقش فيه أحد أن اليهود عرفوا كيف يستثمرون المال، وكيف يوظفونه في أقصى حالاته المتاحة لخدمة قضاياهم، وعلى رأسها دولتهم المغتصبة في فلسطين. ونحن على العكس تماما.. نحب الهدر، ونسيء التوظيف، ونبدد الثروات، ونضيع الفرص، ونشتت الطاقات، رغم أننا نملك مئات أضعاف ما يملكه اليهود، بل آلاف أضعافه. واليوم، حيث تتطلب إدامة الانتفاضة الفلسطينية دعما ماليا كحد أدنى من مطالب القدرة على مواجهة الطاغوت الإسرائيلي، هل استطعنا كأمة أن نحسن توظيف جانب محدود من هذا المال المشاع، لتلبية الطلب الملح؟ إن مليار دولار تبرع بها رؤساء الدول العربية في قمتهم لم يكد يصل منه شيء إلى الفلسطيني، وإن الذي وصل ربما لم يوضع في محله تماما، لكي يمنح المزيد من القدرة على المقاومة والصمود.. وإن الأمة العربية والإسلامية التي تتجمع لدى عدد من أثريائها، وشرائحها، ومؤسساتها، أموال لا يدري أصحابها أين يوجهوا "زكاتها" فقط، لم تكد تفعل إلا ما هو دون الحد الأدنى المطلوب بكثير.. وإن النفط، هذه الطاقة الأسطورية التي تمد الحضارة الغربية بالقدرة على الاستمرارية والنماء، وتمنح القيادات الغربية المتسلطة إمكانيات القوة والتفوق التي يسومون بها المستضعفين في الأرض، سوء العذاب.. لم يكد يوظف ولو في الحدود الدنيا لإمداد الفلسطيني بأسباب القدرة على إدامة انتفاضتهم ومجابهة الطاغوت الإسرائيلي الذي يسعى إلى إخراجهم من الجغرافيا والتاريخ. ألم يئن الأوان لكي نتعلم من الخصم نفسه ما يعيننا على مجابهته، ألم يحن الوقت لنتذكر كيف أن هذه المنحة الالهية التي أعطيناها، فلم نحسن التعامل معها، يمكن أن تضيع على حين غفلة عقابا على ما صنعته أيدينا من سوء، كما خسفت الأرض بقارون يوما، فأصبح خبرا من الأخبار؟ وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه: (أو لمَّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم..). عماد الدين خليل