لا أجد أبلغ من كلمة "المناحة" وصفا للأجواء المخيِّمة على مصر منذ ظهرت نتائج انتخابات المرحلة الأولى. فمنذئذ لم يعد المرء يسمع في فضائها الإعلامي سوى نواح الملتاعين وولولة الحزانى والمحسورين، الذين لم يكفوا عن الجؤار استهوالا للمعلوم وارتياعا من المجهول. شاءت الأقدار أن أرى الصورة مكثفة. ذلك أنني كنت قد أدليت بصوتي في الانتخابات، ثم غبت عدة أيام خارج البلاد. وانقطعت صلتي بالصحف المصرية، في حين أتيح لي أن أتابع بعض البرامج الحوارية عبر الفضائيات. وحين عدت كانت على مكتبي الصحف المصرية التي صدرت خلال الأيام الخمسة التي قضيتها في الخارج. ولأنني وقعت عليها دفعة واحدة تخيل إليَّ أن الإعلام المصري في فضاء البلد سرادق كبير للعزاء، اجتمع فيه خلق كثير من نخبة المثقفين والسياسيين، الذين ظلوا طوال الوقت يتبادلون العزاء ويلطمون الخدود ويشقون الجيوب، في حين انتشرت فرق النائحين والنائحات في أرجاء السرادق الممتد تنعى الثورة التي سرقت ودماء الشهداء التي راحت هدرا، وحلم الدولة المدنية الذي تبخر أو كاد. لم يكن ذلك أعجب ما في الأمر، لأنني لم أصدق عيني حين وجدت أن الفزع السائد في الصحف المصرية لا نظير له إلا في الصحف الإسرائيلية، التي أتابع ما تنشره يوميا، في حين أن وسائل الإعلام في الدول الديمقراطية المحترمة لم تخل من كتابات رصينة أشادت بإقبال المصريين على الانتخابات وبأجواء النزاهة والحرية التي سادت فيها، كما أشادت بتصويت الأغلبية للاعتدال الإسلامي في كل من تونس والمغرب. صحيح أن الصحف الأميركية الموالية لإسرائيل تحدثت عن إرهاصات تحول مصر إلى "إمارة إسلامية"، إلا أن ذلك كان من أصداء الفزع الإسرائيلي من احتمالات صعود الإسلاميين في الساحة السياسية التي اعتبرتها أكثر الصحف الإسرائيلية "كابوسا" يؤرق الجميع هناك ويلاحقهم في الصحو والمنام. بدا المشهد مفارقا ومستدعيا لعدة أسئلة، منها ما يلي: لماذا أصبحت خصومة أغلب الليبراليين والعلمانيين في مصر قريبة الشبه من بُغض الإسرائيليين وتوجسهم مما وصف بأنه صعود لما يسمونه بالإسلام السياسي؟ وإذا تصورت إسرائيل أن ذلك الصعود يمثل تهديدا وجوديا لها، فكيف ولماذا تصور الليبراليون والعلمانيون عندنا أن الإسلاميين يشكلون تهديدا مماثلا لوجودهم؟ ولماذا نجح التوافق بين الطرفين في تونس والمغرب في حين أنه فشل في مصر؟ في 2 ديسمبر، أبرزت صحيفة "المصري اليوم" على صفحتها الأولى العناوين التالية: 14 طعنا تتهم الإخوان والسلفيين بالتزوير. صحف أميركية: مصر تتجه نحو إمارة إسلامية. عكاشة: إحباط المصريين يجعلهم متلهفين إلى من يوصلهم للجنة. وعلى إحدى الصفحات الداخلية نشر مقال ذكر أن "مصير هذا البلد أصبح في يد 40% من الجهلاء والفقراء". في نفس اليوم نشرت الأهرام حوارا مع الدكتور محمد أبو الغار رئيس حزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، تحت عنوان رئيسي هو: التيار الإسلامي يدير مخططا لاغتصاب البرلمان والحكومة، لم يكن المنشور حوارا حقيقيا مما نعهده في المدارس الصحفية، لكنه كان آراء بسطها المحرر لكي يكملها الدكتور أبو الغار. حتى وجدنا أنفسنا إزاء "دويتو" يتبادل فيه المتحدثان التعبير عن آرائهما. الآراء التي أبداها المحرر (يفترض أنها أسئلة) كانت كالتالي: التيارات الإسلامية مارست الخديعة على الأحزاب والقوى الليبرالية وضللتها في المعركة الانتخابية. التيارات الإسلامية تخطط للانقضاض على المشهد السياسي خلال الفترة القادمة. يقينك يستقر على استمرار التيارات الإسلامية في خروقهم للقانون في المرحلتين التاليتين. نتصور أن انغلاق قيادات التيارات الإسلامية على ذاتها يقود الحياة السياسية صوب الخطر. دعك من ركاكة الأسلوب، لأن الأسوأ من ذلك أن المحرر لم يكن مستفهما ولا محاورا، لكنه كان معاديا ومحرضا، ومستخدما مفردات لغة "الفزاعة" التقليدية. آخرون ذهبوا بعيدا، فمن قائل إن السلفيين يتأهبون لحرق مصر، وقائل إنهم ومعهم الإخوان عبروا فوق دماء الشهداء إلى البرلمان (لم يشيرا إلى الكتلة المصرية التي حصلت على 15% من الأصوات في المرحلة الأولى)، وحذر من التصدع التدريجي والتحطيم الممزوج لمقومات الدولة المدنية. استوقفني في هذا السياق ما نشرته صحيفة اليوم السابع في 18 نوفمبر/تشرين الثاني على لسان أحد مرشحي الكتلة المصرية، وقوله إننا لن نترك مصر للتيار الإسلامي وسنقاومهم حتى إذا اضطررنا إلى "الكفاح المسلح" لكي نبقى شوكة في حلوقهم. هو التهديد الذي ما إن وقعت عليه حتى تذكرت تلويحا مماثلا صدر على لسان أحد متعصبي الأقباط (مايكل منير) الذي نشرت له اليوم السابع في 6 أكتوبر/تشرين الأول عقب أحداث ماسبيرو الأولى كلاما دعا فيه الأقباط إلى الإقدام على بناء ما يحتاجونه من كنائس دون انتظار أي إجراء قانوني، ثم أضاف قائلا: "وعليكم الوقوف وقفة رجل واحد في أية قرية لمواجهة الغوغاء إذا ما حاولوا إحراق ما بنيتموه، ولو حرقتم هؤلاء قبل أن يحرقوكم فستكون هذه رسالة للباقين تحذرهم من أنهم سيحرقون لو حاولوا الإقدام على هذه الخطوة". إلى هذا المدى وصل التصعيد والتحريض والتلويح بالكفاح المسلح والعنف الطائفي. وهى إشارة صادمة تقابل بسكوت مستغرب، لا يكاد يقاس بالضجة التي حدثت في مصر حين تحدث أحد الدعاة السلفيين عن "غزوة الصناديق"، بعد الاستفتاء على تعديلات الدستور. الأمر الذي يثير العديد من علامات الاستفهام والتعجب حول أسباب الصمت على التهديد الأول وتعمد إثارة الرأي العام بعد الحديث الثاني. هؤلاء جميعا وجدوا في التيار السلفي ضالتهم المنشودة، فاستثمروا غيبتهم عن الواقع وسوء تعبيرهم عن أنفسهم والخلل في أولوياتهم، الذي جعل اهتمامهم بالمظاهر والسلوك مقدما على الإنتاج والتعليم والصحة وكل أسباب العافية اللازمة للنهوض بالمجتمع، استثمروا كل ذلك في التشهير بهم وبتسفيه الإسلاميين جميعا. مشهد "المندبة" وسرادق العزاء الكبير وعاصفة الشيطنة والتخويف تستدعي عدة ملاحظات، في مقدمتها ما يلي: - إن الحملة انطلقت من افتراض أن الإسلاميين انفردوا بحكم البلد واستهلوا مشروعهم بالتدخل في حريات الناس وإرغامهم على تغيير سلوكاتهم. وهم في ذلك لا يفرقون بين عقلاء وسفهاء ولا بين معتدلين ومتطرفين. فالكل عندهم سواء، وجميعهم في سلة واحدة. وتلك كلها افتراضات لم تخطر على بال أحد. - إن كثيرين تعاملوا مع نتائج المرحلة الأولى وكأنها نتائج المرحلة الأخيرة. علما بأن النتائج التي أعلنت حتى الآن قابلة للتعديل والانقلاب خلال الجولتين التاليتين. - إن المتحدثين نسوا أن هناك شعبا يقظا وواعيا وذكيا يراقب تحركات الجميع، وأن ميدان التحرير لم يغلق أبوابه ولم يُمح من الخريطة المصرية. الأمر الذي يعني أنه من الآن فصاعدا لن يكون في مصر حاكم مطلق اليد في البلد يفعل به وبأهله ما يشاء. - إن دلالة نتائج دائرة مصر الجديدة لم تستوقف كثيرين، لأن لها أكثر من مغزى عميق. فالأغلبية صوتت حقا للدكتور عمرو حمزاوي الأكاديمي الليبرالي كمرشح فردي، والأغلبية ذاتها صوتت لقائمة التحالف الديمقراطي الذي يقوده حزب الحرية والعدالة الإخواني. الأمر الذي يدل على أن الناخبين لديهم الوعي الكافي الذي دفعهم إلى اختيار من اعتبروه الأصلح بين المرشحين. فأعرضوا عن مرشح الإخوان في الفردي، وصوتوا للإخوان في القوائم. - إن نسبة غير قليلة من المثقفين الليبراليين تعاملت بدرجة عالية من الاستعلاء مع جموع المصريين، فزعموا أنهم أساؤوا الاختيار، وساروا وراء الذين اشتروا الأصوات بالبطانيات وزجاجات الزيت وبالرشاوى المالية الأخرى، وقد سبقت الإشارة إلى مقولة إن مصير البلد أصبح بين يدي 40% من الجهلاء والفقراء، ولم تنس بعد أن واحدة من قيادات آخر الزمان دعت لأن يكون للمتعلم في مصر صوتان في الانتخابات وللأمي صوت واحد. - إن احتقار الجماهير والاستعلاء عليها دفع بعض عناصر النخبة إلى القول بأن الناس تزاحموا على الصناديق خوفا من مطالبتهم بدفع غرامات الغياب (500 جنيه). وهو قول مردود بأمرين: الأول أن الناس أقبلوا بكثافة في التصويت على التعديلات الدستورية رغم أنه لم تكن هناك غرامات تهددهم إذا غابوا. الأمر الثاني أنه تم التلويح بالغرامة لحث الناس على المشاركة، لكي لا ينفرد المنتسبون إلى التيار الإسلامي بالصناديق. وكان المقصود هو حماية الأحزاب الأخرى وحث عناصرها على الاشتراك في التصويت لضمان تمثيلها في الانتخابات. - إن الأحزاب القديمة مثل الوفد والتجمع حققت فشلا ذريعا، في حين أن الأحزاب الجديدة أثبتت حضورها. الأمر الذي يعني أن العبرة ليست بالقديم أو الجديد، ولكنها بقدرة الحزب على الحركة ومدى قبول الناس لأفكاره. - إن الحملة المصرية التي قادها الليبراليون والعلمانيون ضد تقدم الإسلاميين تفقدنا الثقة في دعاواهم، وهم الذين ما فتئوا يعظوننا في احترام الآخر وتداول السلطة، لكنهم انقلبوا على القيم التي دافعوا عنها حين رسبوا في الاختبار أمام الآخر، ولم يصبوا غضبهم على منافسيهم فحسب، لكنهم دأبوا على إهانة الجماهير والطعن في إدراكها لمجرد أنها لم تنتخبهم. ما العمل؟ ما الذي يتعين علينا أن نفعله إزاء تصويت الأغلبية لصالح الإسلاميين؟ إذا استبعدنا خيار الانقلاب العسكري الذي قد يرد على الخاطر في مثل هذه الحالة، فلدينا في الإجابة عن هذا السؤال واحد من احتمالات ثلاثة، هي: إما أن نقبل بحكم الصناديق ونلتزم بقواعد اللجنة الديمقراطية. فيظلون في السلطة إذا ما قبلهم الناس، ويتم إسقاطهم وإخراجهم منها إذا ما رفضتهم الأغلبية، وحبذا لو أن الإسلاميين نجحوا في التوصل إلى توافق مع بقية القوى الوطنية حول ما هو مشترك بينهما. الثاني أن نعود إلى سياسة الإقصاء إما بتزوير الانتخابات لصالح الليبراليين والعلمانيين، أو بحرمانهم (أي الإسلاميين) وإعادتهم إلى السجون والمنافي مرة أخرى. الثالث أن نتخلص منهم بأي وسيلة، بإلقائهم في البحر أو إبادتهم في غرف الغاز. في هذا الصدد لا ينبغي أن ننسى أن فكرة التوافق التي طرحت في بداية الحملة الانتخابية كانت حلا كريما وديمقراطيا يمكن أن يجنبنا الموقف المحزن الذي نحن بصدده، وكان التحالف الديمقراطي الذي ضم 40 حزبا إلى جانب الإخوان والوفد صيغة إيجابية تمكن مختلف القوى السياسية من أن تنسق فيما بينها وأن تخوض المعركة الانتخابية بقوة الخير للجميع. ولكن الضغوط التي مورست وعمليات التعبئة والشحن التي لم تتوقف لم تُبق إلا على 9 أحزاب فقط في نهاية المطاف، وكان انفراط عقد التحالف له تكلفته الباهظة، التي تحمل حزب الوفد عبأها الأكبر. لا أعرف إذا كان من الممكن تدارك ثغرات المرحلة الأولى في المرحلتين التاليتين أم لا، لكنني أعرف أن بعض السياسيين يفرطون في ثقتهم بأنفسهم ويفضلون أن يتغير الشعب على أن يمارسوا هم نقدهم لذواتهم، لنزواتهم، ويوهمون أنفسهم بأن الشعب لم يفهمهم في حين أنه في الحقيقة لفظهم ولم يقبلهم.