الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد، فهذه كلمات منتقاة نتتبع فيها شهرنا هذا المحرم محاولين بسط ما صح فيه من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سنحاول التنبيه على ما أُحدث فيه مما لا أساس له ولا أصل، محاولين من خلال ذلك بيان أهم ما وقع فيه مما يفيد المسلم في دينه وما ينفع الدعاة والعلماء في رسالتهم. والله المستعان وعليه التكلان. التعريف بالشهر المحرم هو فاتحة شهور السنة القمرية، وسمي المُحَرَّم لِما كانت له من الحُرمة عند العرب فكانوا لا يستحلون فيه القتال. قال ابن منظور: «والمُحَرَّمُ: شهر الله، سَمَّتْه العرب بهذا الإسم لأَنهم كانوا لا يستَحلُّون فيه القتال» لسان العرب مادة حرم. وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم «شهر الله» تنبيها على منزلة السلام وأهمية الأمن والاطمئنان، فاكتسب بهذه النسبة إلى الله غاية الشرف والسمو، خرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أفْضَلُ الصّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ الله المُحَرّمِ...». بل يكفي الشهر المحرم فضلا ومنزلة أن نص كتاب الله عز وجل على أنه من الأشهر الحُرم التي يَعْظم فيها خَطر الظلم ويسمو فيها العمل الصالح. فقال سبحانه: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ» التوبة 36. وقد ارتبطت حرمة المحرم وسائر الأشهر الحرم بقصد بيت الله العتيق حجا وعمرة وما يدل عليه من التوحيد والعبادة والعمل الصالح وإسلام الأمر لله تعالى. يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير آية التوبة: «وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة: ثلاثة سرد، وواحد فرد، لأجل مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهراً وهو ذو القعدة، لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمناً.» ما صح في المحرم جماع ما صح في شهر الله المحرم فيه توجيه المسلم إلى أمور ثلاثة: أولا: الاجتهاد في النأي بالنفس عن الظلم بمختلف أنواعه من إشراك بالله تعالى الذي هو الظلم العظيم، ومن انتهاك حرمات الله والجرأة على المعاصي والتهاون في الطاعات والقربات. كل هذه المعاني يحملها التوجيه القرآني لما خص الأشهر الأربعة بالحرمة فقال سبحانه: « فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ». وحين نلاحظ ما يقع في الأمة من الشرك والبدع والعصيان في هذه الأشهر عموما وفي المحرم خصوصا، ندرك فعلا قيمة هذا التنبيه القرآني. ثانيا: الاجتهاد في العمل الصالح ومجاهدة النفس وترويضها على التخلي عما لا يرضاه الله من أقوال وأفعال والتحلي بالطاعات والفضائل مما يحقق تزكيتها ويرقى بها إلى منازل الولاية. وعلى رأسها ومن أجمعها الصيام والقيام. لذلك ورد النص عليه في الحديث الذي خرجه الإمام مسلم وغيره مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أفْضَلُ الصّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ الله المُحَرّمِ، وَأفضَلَ الصّلاَةِ بَعْدَ المَفْرُوضَةِ صَلاَةٌ اللّيْلِ» ثالثا: تخصيص عاشوراء الذي هو اليوم العاشر من المحرم بمزيد من الفضل. فهو يوم من أيام الله تعالى تنزلت فيه رحمات مباركات على موسى ومن معه فنجاهم الله من فرعون وبطشه وأورثهم الأرض بفضله ومَنِّه وكرمه... فهو يوم شكر لله وصوم تقربا إليه. لذلك فرض النبي عليه الصلاة والسلام بعد هجرته صيامه ثم نسخ ذلك بعد فرض صيام رمضان، وبقي صيامه فضيلة وقربة. ففي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ. فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الّذِي أَظْهَرَ اللّهُ فِيهِ مُوسَىَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىَ فِرْعَوْنَ. فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيماً لَهُ. فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ أَحَقّ بِمُوسَىَ مِنْكُمْ». فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ. وخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عَبْد اللّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ أَهْلَ الْجَاهِلِيّةِ كَانُوا يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم صَامَهُ، وَالْمُسْلِمُونَ، قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ رَمَضَانُ. فَلَمّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيّامِ اللّهِ. فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» ولما لاحظ الصحابة رضي الله عنه ما في تعظيمه من موافقة لليهود والنصارى وجه النبي عليه الصلاة والسلام إلى صيام يوم قبله أو بعده. ففي صحيح مسلم عن عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ: إِنّهُ يَوْمٌ تُعَظّمُهُ الْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، إِنْ شَاءَ اللّهُ، صُمْنَا الْيَوْمَ التّاسِعَ» قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتّىَ تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. ولمزيد من الترغيب، بين النبي عليه الصلاة والسلام أن صيامه يكفر الله به صغائر ذنوب السنة التي قبله. ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَىَ اللّهِ أَنْ يُكَفّرَ السّنةَ الّتِي قَبْلَهُ وَالسّنةَ الّتِي بَعْدَهُ. وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَىَ اللّهِ أَنْ يُكَفّرَ السّنةَ الّتِي قَبْلَهُ.» ما حدث في المحرم من أبرز ما حدث في المحرم مما له أثر واضح على تدين الأمة ثلاثة أحداث كبيرة: الأولى: نجاة موسى عليه السلام من فرعون. فحمل العاشر من المحرم بشارة للمؤمنين المستضعفين بالاستخلاف في الأرض وتبديل الخوف أمنا. ولعل هذا المعنى من الدوافع التي جعلت النبي عليه الصلاة يشرع سنية استحباب صيامه. وقد مضى الحديث الصحيح بهذا الخصوص. الثانية: ارتباط حدث الهجرة النبوية بالمحرم وبالتاريخ الهجري، رغم أنها كانت في أواخر صفر وأوائل ربيع الأول. إلا أن الناظر في السيرة النبوية يدرك أن التأسيس الحقيقي للهجرة النبوية كان مع بيعة العقبة في شهر ذي الحجة، فكان المحرم فعلا هو أول شهر قمري كامل تلا ذلك، فحسن التأريخ للهجرة بالمحرم، فجمع هذا الشهر الخير من أطرافه فتأمل. وفي ارتباط المحرم بالهجرة نفس دلالات ارتباطه بنجاة موسى عليه السلام بل أكثر. ففي الهجرة نجاة سيد الخلق وحبيب الحق خاتم الأنبياء والمرسلين ومن معه من المؤمنين السابقين المستضعفين، وكان ذلك نقطة انطلاق نحو تعميم الرحمة المهداة للعالمين على العالمين. الثالثة: مقتل الحسين رضي الله عنه سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة كربلاء ظلما وعدوانا في العاشر من المحرم سنة 61 للهجرة. مما خلف فتنة ما تزال آثارها حاضرة إلى اليوم. تجلى ذلك في طوائف من الناس اتخذت منه مأثما وأحيت فيه عادات الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب والنياحة... وطوائف أخرى معادية للأولى متنكبة لصراط الله اتخت منه يوم فرح وسرور وحبور... نعوذ بالله من الفتن. بدع وضلالات إذا علمت السنة فالبدعة ما خالفها وجعلت له قدسية ما أنزل الله بها من سلطان. قد يصعب على المرء الإحاطة بالبدع لأنها تتناسل من رحم الجهل، لكن من السهل، والحمد لله، الإحاطة بالسنة. فما خالفها وأعرض عنها فليس من الهدى في شيء. وقد أحدث الناس في المحرم وفي العاشر منه بدعا متنوعة أخطرها اثنتان كبيرتان: الأولى: اتخاذ عاشوراء يوم مأثم وحزن وعويل وتجديد الأحزان، وإقامة مهرجانات للاعتداء على البدن بالضرب والجرح والطعن، وترويج القصص المصطنعة عن مقتل الحسين رضي الله عنه... مع ما يصحب ذلك من لعن الصحابة وشتم الخلفاء... وكل ذلك مناف لما أمر الله من الصبر عند المصائب وهجر عادات الجاهلية في البكاء والنياحة وتجديد المآسي... قال تعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» البقرة 155. 156. 157. وفي صحيح البخاري عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «لَيْسَ مِنّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعا بِدَعْوَى الجاهِلِيَّةِ» الثانية: عكس الأولى، جعلت من عاشوراء يوم عيد فرح واستبشار تجلى ذلك في الضرب بالدفوف والغناء وإظهار الابتهاج والمرح ورش المياه على الناس، والتوسيع على العيال وما إلى ذلك... وكل ذلك مما لا يستند على سنة صحيحة ولا اجتهاد معتبر. روايات لا أساس لها من الصحة عموم ما صح في الموضوع ذكر فيما سبق، وكل ما سوى ذلك غير ذلك. وقد عني العلماء بالإشارة إلى هذا نظرا للحاجة إليه. من ذلك: أولا: عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وسع على عياله يوم عاشوراء لم يزل في سعة سائر سنته». قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الكبير وفيه الهيصم بن الشداخ وهو ضعيف جداً. ثانيا: «من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم ترمد عينه» قال العجلوني في كشف الخفاء: رواه الحاكم والبيهقي في شعبه والديلمي عن ابن عباس رفعه، وقال الحاكم منكر... وأورده ابن الجوزي في الموضوعات. وقال الحاكم أيضا: الاكتحال يوم عاشوراء لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر وهو بدعة ابتدعها قتلة الحسين رضي الله عنه وقبحهم... وقال ابن رجب في لطائف المعارف: كل ما روي في فضل الاكتحال والاختضاب والاغتسال فيه موضوع لم يصح».