كتب الأمير شكيب أرسلان منذ مدة طويلة كتابه المشهور:" طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" ذكر فيه طبيعة التخلف عند المسلمين والتي أرجعها إلى ما خلفته العبودية من هلكى وما تركته من الضحايا الذين لم يعد الواحد منهم بقادر على الجد والإبداع والابتكار والمساهمة، لأنه يشعر أن مجمل ما سيقوم به لن يكون له من الغنيمة شيء. فلا أقل من أن لا يتحمل مغارم ما يكافح الناس من أجله، ويستسلم للكسل واللامبالاة. ولذلك عبر الفقهاء عن التوازن بين الجهد والحصيلة بقاعدة فقهية مشهورة:" الغنم بالغرم"، أي أن يتحمل الإنسان التعب والجهد ويحصل من تعبه وجهد مصالح وفوائد. وهذه العبودية القاتلة التي تكلم عنها الأمير هي عنده نتيجة طبيعية للاستبداد التي استعلى وانتفخت أوداجه في ظل هذا الوضع الرديء فأصبحت له طبائع ضد العمارة والعمران، بل ضد الإنسانية المتطلعة إلى حريتها كامل وشوق وحنين. الاستبداد في الدول العربية: وقد بلغ درجة أصبحت رائحة آسنة تعمي من يقترب من بركتها، واعتقد المستبدون أن الأرض والعباد لهم، والله تعالى يقول:" إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده"(الأعراف:128). وهذه الدول هي التي مكنت للتخلف، وجلبت الاحتقار لشعوبها بين شعوب العالم، ولم تحقق نفعان أو تدفع بالتقدم، ولم ينتفع الناس بدنياهم، لعل بعض حسنات الاستبداد أن تكون شافعة له. ولكنه كله وزر وشرر:" أينما يوجهه لا يات بخير"(النحل:76). فاستحوذ المستبدون على القرار السياسي، واستحوذوا على المال، كما استحوذوا على الإعلام.. وإن شئت أن تقول: إن الجشع عندهم قد وصل درجة لا ينفع معهم إلا الردم في التراب كما هي واقعة القذافي. لقد قال صلى الله عليه وسلم عن هذا الجشع:" ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب"(البخاري). استحوذ الاستبداد العربي على الشأن العالم غير تارك للناس أن يبدعوا في مواجهة صعاب الحياة، وأفقروا الشعوب بما أصبح معروفا من تهريب الأموال المسروقة من بيت مال الشعوب، وانزعجوا من الرأي فأمموا الإعلام وتطاولت يد البطش في حق من سولت له نفسه أن يصيح أو ينذر. والمهم أخيرا أن الناس عرفوا أنها واحدة من اثنتين: إما الشعب وما يريده، وإما أن يخرج هؤلاء من أرضهم، فقرروا أن يقولوا له: إرحل. المغرب: في المنزلة بين المنزلتين وأما في المغرب، فهناك استبداد وفساد ومظالم، جعلت العاهل المغربي يؤسس فيما سبق ديوان المظالم والمؤسسات الاستشارية في حقوق الإنسان. كما أسس المجتمع مؤسسات للغرض ذاته. وحيث إن الشعب لم يخرج بأرقام معتبرة مخوفة، فذلك دليل على أن هذه المظالم لم تصل من السوء مثل ما وصلت عند جيراننا، حتى تتجاوز الهيئات السياسية والمؤسسات المدنية. كما أنها دليل على أن الديمقراطية في المغرب لم تصل إلى السوء درجة غير مرضية وغير مقبولة بالمرة. إنها في مرحلة من حيث حجم الفساد والاستبداد وانعدام الديمقراطية في المنزلة بين المنزلتين، مما يعفي الأحزاب والمؤسسات الجادة من مسؤولية عدم الانخراط في الحراك الشعبي، لأنه حراك لا يزال ضعيفا، ولكن الذي لم يحسب لها أن كثيرا منها أنها لم تساهم في ترشيد الحاجات الشعبية. الإصلاح شريعة الأنبياء إنهم الذين بعثهم الله عز وجل لكي يرفعوا في الناس موضوع بعثهم وهو الإصلاح، فما من نبي إلا وقال لقومه:" إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب "(هود:88). ثم بقي هذا الموضوع من الأعمال الصالحة في رقبة كل مسلم في أن يجتهد في إصلاح ما أفسده المفسدون وغير جماله الرهط الهالكون. ولقد قال صلى الله عليه وسلم مشيدا بكل من انخرط في سلك الإصلاح:"إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا، فطوبى للغرباء الذين يُصْلِحُونَ ما أَفْسَدَ الناس من بعدي من سنتي"(الترمذي وقال:هذا حديث حسن). وفي رواية أخرى:" قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال:" الذين يَصْلُحُونَ حين يَفْسُدُ الناس"(مشكل الآثار للطحاوي، حديث:587). فهذه الفئة التي نوه بها صلى الله عليه وسلم، قد اجتمعت فيها صفتين حددهما عليه الصلاة والسلام، وهما: الأولى: أنهم يَصْلُحُونَ في هذه الأزمنة الغريبة، ولا يَصْلُحُ سواهم، بما عُرف عنهم من محبة للإصلاح والعيش فيه. الثانية: أنهم يُصْلِحُونَ ولهم رغبة قوية للتدافع وتحقيقه في الناس. وهذا الحديث يدل على أن الإصلاح لا ينقطع في الناس، وأن طائفة منهم لا تزال متمسكة به تناضل وتكافح من أجل نشره وانتشاره. وقد تكون هذه الفئة ضعيفة مستضعفة في بعض الأزمان، ولكن قلة عددها وشوكتها لا تمنع من قيامها بواجب الأنبياء والمرسلين. قال عليه الصلاة والسلام" طوبى للغرباء, طوبى للغرباء. فقيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليلٌ في ناس سَوْءٍ كثيرٍ, من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم(مسند عبد الله بن المبارك، حديث: 23). إنها الفئة الصالحة المصلحة في زمانها.