قد لا تكون دائما تلك الأسطوانة التي يحملها الصغار بين أيديهم في اطمئنان تام من آبائهم مجرد لعبة بسيطة.. فعندما يشغلها الطفل في جهاز الكمبيوتر أو «البلاي ستيشن»، قد تتحول إلى سم فتاك ينشر الفساد والعنف.. يبيح الخلاعة والانحلال.. ينسف كل القيم والمبادئ.. باختصار يغتال براءة الأطفال. آباء وأمهات كثر غفلوا عن مراقبة ما يقتنيه أبنائهم، واعتبروا هذه الألعاب وسيلة لإلهاء الصغار، واختفاء المشاكسات والضوضاء.. فلم يخطر لهم على بال أنها تساهم أيضا في اختفاء كثير من القيم والأخلاق.. «التجديد» تفتح ملف الألعاب الإلكترونية التي تعج بها الأسواق المغربية، والتي تخل بالقيم الأصيلة وتؤسس لشخصيات عنيفة أحيانا وانطوائية أحيانا أخرى.. وتناقش الموضوع من زوايا مختلفة. «بدا مستمتعا بقتل المدنيين والأبرياء، الدماء والأشلاء تتطاير في كل الأرجاء.. وكان كل تركيزه مع شخصيته المدججة بالسلاح بتلك اللعبة التي سيطرت على تفكيره، وغدت محور حياته.. وجعلته لا يمل ولا يسأم ويرفض القيام بأي شيء غير اللعب بها، لقد بت حقا أخشى على صغيري..» هكذا تحدثت سعاد، موظفة وأم لطفل في ربيعه السابع، بملامح امتزجت بالحزن والقلق، عن ابنها الوحيد. لم تكن سعاد الوحيدة التي حاورت «التجديد» فالكثير من النساء تحدثن عن قلقهن من تأثير هذه الألعاب على صغارهن العاجزين عن التمييز بين الخطأ والصواب، كما هو حال أم عمر التي تقول «عمر في العاشرة من عمره جلس ساعات طويلة أمام «البلاي» كل يوم، ولا نستطيع إبعاده إلا بالقوة والتعنيف في معظم الأحيان»، وأضافت «وما يخيفني أكثر هو تأثره ببطل لعبته المفضلة «هيت مان» والذي يدعوه العميل 47، فعمر يعتقد أن البطل في اللعبة هو أقوى رجل في العالم»، ولم تخف الأم قلقها الشديد عندما شاهدت مقطعا من اللعبة، إذ قالت والدموع تحاول التسلل خفية من عينيها الحزينتين «كم غدا خوفي أكبر حينما أدركت أن بطله هذا هو قاتل مأجور لا يتردد في سفك الدماء ببرودة دم». وليست المغربيات فقط اللواتي تعشن في قلق دائم مما قد تسببه هذه الألعاب الإلكترونية، فغيرهن كثير عبر ربوع العالم، فقد أسست مجموعة من النساء من دول عديدة جمعيات غرضها الوحيد هو شن حرب ضد الألعاب التي تؤثر بشكل سلبي على الأطفال ومساندة مدمنيها على تجاوز المشكل، ومن أشهرها جمعية «زوجات ضد لعبة إيفركويست» و»أرامل لعبة إيفركويست»، وتضم هذه الأخيرة حوالي 1000 عضو، في حين بدأت الصين وكوريا في تخصيص مراكز إعادة تأهيل لمدمني الألعاب الإلكترونية، وأقيمت أول عيادة من هذا النوع في أوروبا في شهر يونيو 2007 في مدينة أمستردام، وقال مؤسس العيادة، الدكتور «كيس بكار» لصحيفة «المترو» اللندنية أن إنشاء العيادة جاء عن طريق الصدفة «لاحظنا في الآونة الأخيرة كثرة عدد المترددين علينا من الأطفال الذي أدمنوا استخدام المنبهات حتى يستطيعوا قضاء ساعات طويلة أمام اللعبة»، وأضاف «بكار» أن الأخصائيين في العيادة يتعاملون مع تلك الحالات بالاستعانة بالأهل والأصدقاء وهو ما يحدث مع مدمني الكحول. إدمان من نوع آخر !! قد يكون من الشائع ربط الإدمان دائما بتناول المحظورات من كحوليات أو خمر أو مخدرات، لكن الألفية الجديدة عرفت أنواعا أخرى من الإدمان تتناسب مع ما باتت تعرفه من تطور، ونحن بصدد إلقاء الضوء على واحد من أهم الأنواع المنتشرة بها، ألا وهو إدمان الألعاب الإلكترونية. «يجلس وحيدا لساعات طويلة في إحدى زوايا الغرفة وعيناه مشدودتان نحو الشاشة، وكأنه يحيا بداخل عالمها لا عالمنا !.. فلا يرى إلا ما تستعرضه من بريق متنوع الألوان ممزوج بكم وافر من الصور المتحركة، ويداه تمسكان بإحكام على جهاز صغير ترتجف أصابعهما مع كل رجفة من رجفاته وكأنه مفتاح عالمه الذي لا يستطيع أن يحيا بدونه، وتتحرك بعصبية –يداه- على أزرار بألوان وأحجام مختلفة، ولا تسمع حينما تحاول أن تصغي لما يجري هناك إلا طرقات إلكترونية تخفت حينا وتعلو حينا آخر.. وبضع أصوات وهتافات تتعالى كلما طارت أحد الرؤوس وامتلأ المكان بالدماء بصورة وحشية وكأن النصر تحقق حينذاك ! وسرعان ما يتبعها أحيانا شتم أو سب ورمي لكل ما تقع عليه يداه حين تنتهي طاقة وحشه الكاسر، ويفقد معها حياته وكأنها لحظة الهزيمة.. لكن اللعبة لا تنتهي فسرعان ما تدب فيه الروح من جديد ويعود إلى تقطيع الرؤوس وتحويل الأعداء إلى أشلاء بلا رحمة..». وقع كل هذا دون أن يعي محمد الذي بلغ ربيعه الثاني عشر قبل شهر، شيئا مما حوله إلا ما يجري في لعبته، و في بضع لحظات نادرة كان ينتبه إلى من يجلس إلى جانبه فيقدم ابتسامة خاطفة أو يعرض ملامح التذمر.. قضت «التجديد» نصف يوم في غرفته، حيث توجد مكتبته التي يرتب فيها كتبه وأوراقه الدراسية ورفوف على الحائط تعج بقصص الأطفال، إلى جانب تلفاز وجهاز الألعاب (Xbox) المفضل عنده. تؤكد أم محمد، أستاذة مادة الطبيعيات بفاس، أنها عاجزة عن فهم سر جلوس ابنها أمام التلفاز لساعات طويلة دون ملل أو كلل، وتقول في تصريح ل «التجديد» «لا أدري إن كان ابني والأطفال بشكل عام يشعرون بنوع من الراحة، أم إن تلك الإثارة المفرطة التي تبدو عليهم مرتبطة بتحرير مادة «الأدرينالين» في الجسم، والتي تخلق نشوة مميزة وتولد في الطفل رغبة قوية في الانتصار ولا شيء آخر!!». أما نعيمة أستاذة مادة اللغة الفرنسية بمكناس، فأكدت في اتصال ب «التجديد» عند وصفها سيطرة ألعاب الفيديو على عقول الصغار، أن الألعاب الإلكترونية تجرد الأطفال من إنسانيتهم، وتحولهم إلى مجرد مستقبلين لا يقومون إلا بردود أفعال. آثار سلوكية في ظل غياب أجهزة الرقابة الرسمية عن محلات بيع الألعاب الإلكترونية ومراكز الألعاب، وانتشار ظاهرة القرصنة التي يعمد إليها أغلب الباعة، وجد الكثير من هذه الألعاب الفضاء الرحب لتسريب الأفكار الهدامة وترويج ثقافة ومفاهيم تتعارض مع تعاليم الدين الحنيف، وتنافي كل العادات والتقاليد وتعادي الانتماء للوطن والمجتمع المغربي الأصيل.. «كل الألعاب التي يقتنيها ابني تعتمد على التسلية والاستمتاع بقتل الآخرين، وتدمير أملاكهم والاعتداء عليهم بدون وجه حق، وأبطالها مجرمون وزعماء عصابات ومطلوبون من العدالة.. أخشى على ابني من تعلم فنون الجريمة الكاملة..» تحدثت ثورية، أرملة وأم لطفل وحيد في ربيعه التاسع، بقلق بالغ، قبل أن تستمر في حديثها وهي تصف رغبتها في تلبية طلبات ابنها من أجل أن تعوضه عن فقدان والده، رغم خوفها الشديد من أضرار تلك الألعاب، كما قالت «لكن أمام إصرار ابني فإني لا أمتلك إلا أن أشتري له كل ما يريد طائعة.. فلا أريد أن أحرمه مما يملك أقرانه أو أشعره في أي لحظة أنه أقل منهم في شيء». ويقول الدكتور «كليفورد هيل» المشرف العلمي في اللجنة البرلمانية البريطانية لتقصي مشكلة الألعاب الإلكترونية، في هذا الصدد «لقد اغتصبت براءة أطفالنا أمام أعيننا وبمساعدتنا بل بأموالنا أيضا.. وحتى لو صودرت جميع هذه الأشرطة فإن الأمر سيكون متأخرا للغاية في منع نمو جيل يمارس أشد أنواع العنف تطرفا في التاريخ المعاصر». من جهته يشير «كريغ أندرسن» وهو عالم نفس أمريكي متخصص في عنف الميديا في أبحاثه، أن مدمني الألعاب الإلكترونية التي تعتمد على العنف المبالغ فيه هم «قنابل موقوتة»، موضحا الطبيعة «التفاعلية» لهذه الألعاب، ما يجعلها أكثر خطرا من العنف الذي يتعرض في التلفزيون والسينما، لأن الأطفال يتعلمون بالممارسة أكثر مما يتعلمون بالمراقبة. وفي يوليوز 2005 انفجرت فضيحة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، عندما اكتشف أن لعبة «Grand Theft Auto» (سرقة السيارات الكبرى) أو ما يعرف اختصارا ب (GTA)، و هي الأكثر شعبية في البلاد، تتضمن مواد إباحية، ورغم توجيهها للبالغين فقط، انتشرت في صفوف الأطفال.. بل وأصبحت اليوم منتشرة على نطاق واسع بين أطفال المغرب في ظل غياب المراقبة وهيمنة القرصنة على الأسواق، يكفي فقط خمس دراهم للحصول عليها !! ولعبة سرقة السيارات (GTA) هي لعبة دموية، بطلها الرئيس، رجل عصابات يسرق السيارات، إضافة إلى أنها واحدة من مجموعة ألعاب كثيرة تمجد الإباحية والعنف، وتتيح للاعب أن يحرك بطله لممارسة الجنس مع من يختاره، خاصة بعد انتهاء المهمة بنجاح ويساعده ذلك على تجديد طاقته، وتزداد شعبية هذه اللعبة يوما بعد يوم وهي تتسلل خفية إلى عدد كبير من البيوت المغربية. ويؤكد عدد من الآباء تحدثوا إلى «التجديد»، ظهور سلوكات سلبية على أبنائهم من فرط إدمانهم على الألعاب الإلكترونية، فرقية مثلا، عبرت عن تذمرها من إهمال أولادها لواجباتهم الدراسية على حساب جهاز «البلاي ستيشن» الذي لا يفارقونه، إلا لحظة مغادرتهم المنزل في اتجاه المدرسة أو عندما يأخذهم العياء إلى النوم، وقالت «يفضل أطفالي الجلوس أمام «البلاي ستيشن» على أي شيء آخر، إذ لا يسأمون منه حتى إن جلسوا أمامه لساعات طويلة.. فيتكاسلون في أداء واجباتهم المدرسية ومراجعة دروسهم اليومية، ويسهرون لساعات متأخرة من الليل أمامه مما يجعلهم يذهبون للمدرسة مرهقين وكسالى.. هذا بالإضافة إلى تفكيرهم المستمر في هذه الألعاب أثناء يومهم الدراسي.. وكل هذا يؤدي إلى تأخرهم دراسيا». بدوره، لم يخفي علي، معلم بمدرسة ابتدائية بفاس، صدمته من تصرفات ابنه الغريبة التي اكتشفها لأول مرة «سمعت طفلي الصغير يسب و يشتم بصوت عال اسما غريبا لم أسمعه من قبل، فسألت زوجتي إن كان هنالك أحد مع عدنان في الغرفة.. لكنها أجابت ببرود أنه يلعب «البلاي سيشن» وأنه ينفعل دائما عندما يهزم في لعبته» وتساءل مستغربا «أكل أبناء هذا الجيل هكذا؟». وهناك آباء يشتكون من عزلة أبنائهم وانطوائهم على ذاتهم، فأحمد نجار يؤكد أن طفلاه يجلسان لساعات طويلة أمام الألعاب ويرفضان مجالسته ولو دقائق معدودة، ويضيف أنهما لا يرغبان بالمشاركة في أي نوع من المناسبات الاجتماعية والعائلية إلى جانب غيابهما في معظم الأحيان عن مائدة الغذاء بجوار والديهما، ويكتفون بتناول الطعام أمام الجهاز الذي يشغلانه. آثار صحية نبه البروفسور عادل الملحاوي، طبيب جراح في الدماغ، إلى خطورة تعرض الأطفال في سن مبكرة بكثرة إلى الألعاب الإلكترونية، وأكد أن هذه الأخيرة تؤثر على النمو العادي لخلايا الدماغ وتسبب اختلالا على المستوى البعيد على ملكة تركيز الطفل وقدراته العقلية. واعتبر في تصريح ل «التجديد» أنه من الطبيعي جدا أن يطلب الطفل من أبويه تمكينه من جهاز يشغل أقراص الألعاب الإلكترونية شأنه شأن أصدقائه، لكن المشكل يكمن في إدمانه في سنوات عمره الأولى والتي يكون لها انعكاسات على جهازه العصبي. وإلى جانب ما قد يخلفه الإدمان في سنوات مبكرة على الطفل من مشاكل مرتبطة بالدماغ أساسا، فقد أشارت بعض الأبحاث العلمية إلى أن حركة العينين تكون سريعة جدا أثناء ممارسة هذه الألعاب مما يزيد من فرص إجهادها إضافة إلى أن مجالات الأشعة الكهرومغناطيسية والمنبعثة من شاشات الكمبيوتر تؤدي إلى حدوث الاحمرار بالعين والجفاف والحكة، وكلها أعراض تعطي الإحساس بالصداع والشعور بالإجهاد البدني وأحيانا بالقلق والاكتئاب. وشدد الملحاوي، أستاذ مساعد بمستشفى الاختصاصات بالرباط، على ضرورة تجنب تعرض الأطفال الذين يعانون من مرض الصرع، للألعاب الإلكترونية، وأضاف في تصريح ل «التجديد» أن الألعاب –خاصة العنيفة منها- تجعل الطفل في توثر مما يسهم في مد الدماغ بإشارات سلبية، كما أن الوميض المتقطع بسبب المستويات العالية والمتباينة من الإضاءة في الرسوم المتحركة الموجودة في هذه الألعاب تتسبب في حدوث نوبات من الصرع لدى الأطفال. وقد تسنى ل«التجديد» أن تلتقي مع ثلاثة أطفال في مدينة فاس، يعانون من آلام على مستوى الرقبة والظهر والأطراف، وحسب ما أفاد به أحدهم، فإن ذلك يرجع لإدمانه الجلوس لفترة طويلة أمام الكمبيوتر وعدم قيامه بتمارين رياضية. وأفادت دراسة نشرت في مجلة طب الأطفال الأمريكية شهر غشت الماضي، أن مشاهدة الأطفال للتلفاز وممارستهم لألعاب الفيديو عدة ساعات في النهار قد تؤدي إلى خفض معدل فيتامين «د» لديهم، وهو ما يؤثر على صحتهم تأثيرا خطيرا، وذكرت الدراسة أن مستويات فيتامين «د» المنخفضة تؤثر على سبعة من بين عشرة أطفال أمريكيين، وهذا يضر بنمو عظامهم ويصيبهم بأمراض القلب ويسبب لهم مشاكل صحية أخرى. البديل!! يؤكد عز الدين، بائع للألعاب الإلكترونية بالدار البيضاء، في تصريح ل«التجديد» أنه إلى جانب الألعاب الأخرى التي أوردناها والتي تعرف إقبالا كبيرا، تنتشر في الأسواق المغربية ألعاب أخرى رغم أنها لا تحظى نفس الرواج، تتوزع بين ألعاب تعليمية وأخرى تعرف الأطفال بتاريخهم المشرق، وأخرى تساعدهم على اكتساب مهارات متنوعة.. ومن بين هذه الألعاب، حصلت «التجديد» على لعبة «أسد الفلوجة»، التي تحكي قصة «البطل صالح» وهو شاب مسالم ينبذ العنف، هاله المنظر وهو يرى أهل مدينته يقتلون بوحشية بقصف من الطائرات الأمريكية، فيقرر الدفاع عن وطنه.. وتتميز اللعبة بتصميم ثلاثي الأبعاد للآليات العسكرية المختلفة والسيارات تقرب من أجواء المعركة. وتزخر الأسواق أيضا بلعبة «تحت الحصار» وهي لعبة عن القضية الفلسطينية، تؤرخ لمذبحة الخليل وتنتهي بحصار جنين، وتركز في أحداثها على مصير عائلة فلسطينية مكونة من خمسة أفراد، وتتضمن عمليات تسلل ومغامرة ومطاردة.. وتقدم 12 عالما افتراضيا مختلف مقسم إلى 22 مرحلة، ويلاحظ أن العوالم الافتراضية تم تصميمها بالاستناد إلى العالم الحقيقي.