تحاول عدة أطراف التلبيس على المواطنين بجعل تزوير الانتخابات يرتبط بإجرائها أولا، مستبعدة إمكانية تزويرها "عن بعد". ويسوق الخطاب الرسمي لمفهوم واحد للتزوير وهو التزوير التقليدي المتعلق بالتلاعب بنتائج الانتخابات بعد إجرائها، متجاهلا التزوير الناتج عن آليات تنظيم الانتخابات بما يجعل نتائجها تكرس البلقنة و لا تعبر عن حقيقة موازين القوى السياسية و لا تعكس حقيقة إرادة الشعب، وكل ذلك تزوير. وخرجت الحكومة، المشرفة على المغادرة، في زمن الدستور الجديد، ببلاغ مارست فيه الإرهاب السياسي، باعثة فيه روح السلطوية المعهودة في زمن الرصاص الذي ظن المغاربة أنهم أقبروه إلى غير رجعة، مشككة في نوايا الذين يمارسون حقهم الدستوري وواجبهم الوطني في حماية الانتخابات من ألاعيب السلطوية، متهمة إياهم بخدمة "أعداء الوطن والديمقراطية والانفتاح". ورغم أن البلاغ الحكومي ليس سوى "غارة جوية" لدعم "العمليات الأرضية" التي تقودها وزارة الداخلية في إعداد مشاريع القوانين الانتخابية في غفلة عن الحكومة نفسها، إلا أنه (البلاغ) يعتبر من جهة،إعلان نوايا لا يمكن أن تطمئن أحدا، ومن جهة ثانية، خروج واضح عن مقتضيات الدستور الجديد في حماية حق البرلمانيين في ممارسة دورهم الرقابي ودورهم كممثلين للشعب بما أنه يأتي ليستكمل هجومات وزير الداخلية على المعارضة في المناقشات التي عرفتها لجنة الداخلية واللامركزية والبنيات الأساسية بمجلس النواب ليوم الخميس الماضي، والبيان من جهة ثانية جاء ونفس اللجنة منعقدة مما يجعله تدخلا سياسيا خطيرا في أعمل اللجنة وللتأثير على أعمالها. ورغم أن الحديث عن "التزوير عن بعد" يستهدف السلطوية إلا أن البلاغ الحكومة قصد، بطريقة ملتبسة ومثيرة للاستغراب، إلى محاولة اتخاذ درع واقي من وصف نفسها، في سياق هذا الجدل، بحكومة صاحب الجلالة، والحديث عن التوجيهات الملكية السامية وبالحديث عن خطابات الملك، في حين أن مقصد الحديث عن "التوزير عن بعد" هو تطبيق منطوق الدستور والخطابات الملكية الرافضة للتزوير مهما كان نوعه بما أنها تتحدث عن إرادة الشعب. وبالرجوع إلى "التزوير عن بعد"، بصفته أحد أخطر أشكال تزوير الانتخابات في المغرب في كل المحطات الانتخابية السابقة بنسب متفاوتة بالطبع، فإننا نجده في عدة آليات نجمل الحديث حولها في أربع آليات كبرى: الآلية الأولى: تدبير ملف الانتخابات والإشراف عليها من طرف وزارة الداخلية، حيث أن ما راكمته تجربة وزارة الداخلية في تدبير الانتخابات السابقة، ومع غياب ضمانات قانونية على وقوع العكس لتنزيل مقتضيات الدستور غير الكافية، تجعل الوزارة خصما وحكما في آن الوقت، وتجعل تدبيرها للملف يفتقد إلى المصداقية الضرورية لاستبعاد سيناريوهات "التزوير عن بعد" السابقة، مع أن بدائل كثيرة تعتمد ومنها الإشراف القضائي، وليس التأثيث بالقضاة في هياكل إدارية تهيمن عليها السلطة، كما تطرح مشاريع قوانين وزارة الداخلية. الآلية الثانية، التقطيع الانتخابي، وهو الذي تعتمد فيه معطيات جغرافية التوجهات السياسية حيث يتم تفصيل الدوائر الانتخابية بما يعزز فرص أحزاب ويضرب فرص أخرى، وقد يتخذ هذا التفصيل شكلا فجا يجد ترجمته باختلال فضيع على مستوى التركيبة الديموغرافية لتلك الدوائر، وتقدم انتخابات 2007 نماذج لها. اللوائح الانتخابية، فهذه اللوائح بالطريقة التي طرحها مشروع وزارة الداخلية، مخالف للدستور ويحرم قرابة ثلث المغاربة دوي الحق في التصويت من حقهم الدستوري. ودور هذه اللوائح في المقاربة السلطوية يتجاوز وظيفتها في حماية العملية الانتخابية من التلاعب، إلى الضبط السياسوي للكتلة الناخبة، مما ييساهم في "التحكم عن بعد" في نتائج الانتخابات. هذا إذا فرضنا أن تلك اللوائح تمت تنقيتها من الموتى والمكررين ومن فاقدي الحق في التصويت بحكم القانون. الآلية الرابعة، وهي إضعاف إمكانية مراقبة الانتخابات بما يضمن نزاهتها وشفافيتها في مكاتب التصويت سواء من طرف الأحزاب أو المجتمع المدني أو غيرهما، حيث تعمد السلطوية إلى تفريخ عدد من مكاتب التصويت لا قبل لأي حزب ولا شبكة مجتمع مدني أن تضمن تغطية نصفها فكيف بتغطية كل مكاتبها التي تناهز الأربعين ألف مكتب بمناضلين حقيقيين منها بإمكانهم الالتزام بما تقتضيه وظيفتهم الرقابية ومسؤوليتهم النضالية والحزبية، فتلجأ الكثير من تلك الأحزاب إلى استئجار ملاحظين لا هم لهم سوى الحصول على التعويض المالي . وهذه الآلية خطيرة جدا حيث تحرم الأحزاب وهيئات المراقبة المختلفة من إمكانية ملاحظة عمليات التصويت في المكاتب كما تحرمها من محاضر التصويت التي تعتبر من الوسائل الحيوية في عملية المراقبة بسبب عدم تمكنها من تعيين ممثلين عنها، ويكون الوضع في العالم القروي أفضع. إن الاختلالات التي تنطوي عليها هذه الآليات الأربع وغيرها من الآليات الأخرى، هي ما يفضي، بقصد أو بغير قصد، إلى "التزوير عن بعد" للانتخابات. وبالرجوع إلى الجدل الدائر حول القوانين المنظمة للانتخابات، فإن أي متتبع لما يصدر عن السلطات حكومة ومسؤولين لا يمكنه إلا أن يستغرب النفس القمعي والتخويفي والتهديدي فيها، وهذا الخطاب يناقض روح المرحلة الجديدة ويضع المغرب خارج المطلوب منه في سياق الربيع العربي، والذي حقق ضمنه منجزات مهمة. غير أن السلطوية بتعسفاتها وخطاباتها السياسوية تهدد بنسف "الغزل" الذي نسجه المغاربة جميعا وقدمت فيه تضحيات وتنازلات. إن التحدي اليوم ليس في براعة التلاعب بالمفاهيم والحقائق ولكن في الالتزام السياسي، وأن شبح العزوف السياسي الذي غذته وتغذيه أخطاء السلطوية، ماثل للعيان. فهنيئا للسلطوية بكسبها في زمن الدستور الجديد.