هذه التجربة ليست مألوفة بعد للجماهير العربية، إذ يمكن لمن يشاهدون الإعلانات التقليدية المملة عن شفرات الحلاقة ومساحيق الغسيل وإطارات السيارات؛ أن يفغروا أفواههم أمام إعلان من نوع مختلف. ففيه سيشاهدون شاباً عشرينياً وهو يجلس أمام جهاز الكمبيوتر، فيما كان صوت الموسيقى الصاخبة يملأ المكان، قبل أن ينحسر هذا الصخب لصالح صوت المؤذن وهو ينادي لإقامة الصلاة ثم يأتي والد الشاب ويطلب من ولده المنهمك في ممارسة الألعاب الإلكترونية أن ينهض لأداء فريضة الصلاة، لكن الشاب يواصل اللهو دون أن يلتفت إلى الأذان أو نصائح والده. ويستمر الإعلان الحافل بالمؤثرات ليصوِّر الشاب في غمرة هذا المشهد بينما ينتابه الشعور بألم في يده اليسرى وإعياء شديد، في إشارة إلى إصابته بجلطة دموية بالقلب، ثم يبدأ بالتهاوي على المكتب الذي يجلس عليه، ويمرّ به شريط الذكريات بسرعة خاطفة منذ طفولته. عندها يبدأ مشهد آخر غير مألوف، إذ يظهر الشاب متوفى في كفنه الأبيض وهو مكشوف الوجه، ويتجمع أهله وذووه حوله باكين، ثم يتم تغطية وجهه قبل أن يُحمَل على الأكتاف استعداداً لصلاة الجنازة وبسرعة يتم التوجه به إلى قبره، فيتم إنزال مصباح إلى حفرة القبر قبل أن ُيدفن فيها ويهال عليه التراب، وعندها ينتهي المشهد المؤلم بشاشة سوداء تعتليها العبارة "أقم صلاتك قبل مماتك ". تراجيديا إعلانية مثيرة هذا العرض التراجيدي غير المعتاد جاءت وقائعه المتتابعة في سياق دعاية تلفزيونية حديثة يجري عرضها حالياً ضمن الفواصل الإعلانية في عدد من القنوات الفضائية العربية. والمثير أنّ كل هذه التفاصيل المتتابعة لا يستغرق عرضها أكثر من ثلاثة أرباع الدقيقة هي مدة الإعلان، وقد استخدمت في تصويرها تقنيات سينمائية حديثة، وقدرت أوساط المشتغلين في المجال السينمائي كلفة إنتاجها بنحو ستين ألف دولار أمريكي، أما تكاليف بثها فهي أكثر من ذلك بكل تأكيد. وهناك ما يشبه الإجماع بين من شاهد هذا الإعلان الإرشادي بأنه مؤثر للغاية، على الرغم من خلوِّه من مؤثرات تقليدية، كالموسيقى والحركة السريعة والأضواء. ولعلّ مكمن التأثير في هذا الإعلان في تركيزه على النهاية الحتمية للبشر، وتصوير المراحل النهائية لحياة إنسان لاهٍ قبل إيداعه القبر، خاصة وأنّ المخرج قد لجأ إلى إنزال الكاميرا إلى داخل القبر ليمنح المشهد أكبر قدر ممكن من التأثير المطلوب. ولا يخفى أنّ معدِّي هذا "الإعلان" غير النمطي إنما يهدفون إلى تذكير المشاهدين بضرورة إقامة الصلاة، التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام الخمسة، والتي تعتبر من أهم الفرائض المطلوب من المسلم أن يؤديها، وذلك خمس مرات في اليوم والليلة. وتعتبر الصلاة في الإسلام بمثابة "عماد الدين" ومن أهم الفضائل التي يزكى مؤديها، ومن أهم عوامل مساعدة المسلم على الالتزام بالفضائل والابتعاد عن المحرمات. رسالة بليغة تخالج أعماق الوعي وتعيد رسالة "الإعلان" إلى وعي الجمهور بأنّ الموت يأتي فجأة على الإنسان، وأنّ الشبان ممن هم في سن مبكرة ليسوا بعيدين في الحقيقة عن تعرّضهم لنهاية سريعة لحياتهم، حتى وهم جالسون في بيوتهم تماماً، مثل الشيوخ. ولأنّ الموت هو نهاية عمل الإنسان؛ تذكر "الدعاية" بضرورة اغتنام فرصة الحياة لإقامة هذه الفريضة قبل الموت والحساب على ما تقدّم من عمل. وطوال الشهر الماضي، الذي بدأ فيه عرض هذا المشهد الإعلاني؛ لم يتمكن أيّ من العاملين في الوسط الإعلامي أو في السوق الإعلاني من معرفة الجهة التي تقف وراءه، ولكن أرجح الاحتمالات تشير إلى أنها قد تكون جهة ما أو شخص بعينه في المملكة العربية السعودية، ولكنها من الواضح أنها قد استعانت بخبرات سينمائية وفنية رفيعة لإيصال رسالة دعوية غير تقليدية إلى قطاع واسع من المستقبلين. وقد كانت قناة تلفزيون الشرق الأوسط "إم بي سي" أولى القنوات التي وافقت على عرض الإعلان، بينما ترددت قنوات مثل "إل بي سي" و"المستقبل" اللبنانيتين بعرضه قبل موافقتهما، وكانت فضائية "الجزيرة" آخر القنوات التي عرضت هذه الدعاية الجريئة ضمن فقراتها الإعلانية، علماً بأنّ جميع القنوات تعاملت معه كأيِّ إعلان تجاري مدفوع الأجر. إعلان جريء ومثير للجدل وكان من المتوقع أن تثير تجربة كهذه ردود فعل لا تخلو من التجاذبات، ومن بين من هاجم هذا الإعلان "الترهيبي" مفكر وكاتب عربي معروف، رأى فيه خلال مشاركته في منتدى للحوار على شبكة الإنترنت مجرد دعوة "لعدم استخدام جهاز الكمبيوتر"، واعتبر أنه ينطوي على مبالغة في توظيف قضية الموت لبعث مؤثر ديني. وكان من بين المؤيدين للتجربة مخرج إعلانات تلفزيونية كان قد شارك في منتدى الحوار ذاته، إذ قال "لماذا لم يعترض أحد على استخدام صور العشرات من الفتيات وهن يرتدين نصف ملابسهن، في دعاية للمشروبات الغازية"، وأبدى استغرابه بالقول "أين المغالاة؛ هنا أم هناك؟" في إشارة إلى أن توظيف حقيقة الموت في الإعلان كانت ضمن سياقها المنطقي، حسب تقديره. وبعيداً عن الخلاف الذي أثاره إعلان كهذا؛ يشترك القطاع الأعظم من المختصين والمشاهدين بأنه محاولة لا تفتقر إلى التميز والجرأة، وهناك من رأى فيها مؤشراً على نمو الاهتمامات الإعلامية للوعاظ والدعاة المسلمين، بل هناك من رأى في المشاهد "فكرة رائدة في الدعوة الإسلامية وتشجيع الفضيلة والتمسك بأهداب الدين". ويرى مشتغلون في قطاع الإعلان، بأنّ القائمين على الإعلان الجديد قد وظفوا بصورة مشروعة كافة المؤثرات الممكنة لإيصال الفكرة الرئيسة منه، ويظهر بجلاء كيف أنّ التركيز على النهاية الحتمية للإنسان، وتصوير لحظات الفراق في القبر من شأنها أن تترك تأثيراً عميقاً على أكبر قدر ممكن من المشاهدين، وذلك خلال ثوان معدودة. تأثير عميق .. وصعوبات تواجه التجربة وتحدثت مهتمون بالتجربة الإعلانية الفريدة من نوعها قاموا برصد تأثيرها في دول المنطقة عن أثر تركته بالنسبة لعدد ملحوظ من المشاهدين، ورصدوا حالات من استئناف تأدية الصلاة بعد مشاهدتها. وقالت مسؤولة التسويق في أحد مشافي الكويت، إن هذا الإعلان غير حياتها بالكامل، ولم يحفزها فقط على أداء الصلاة، وإنما قررت ارتداء الزي الإسلامي بعد أن كانت تحجم عن ذلك. فيما قال موظف حكومي رفيع في إحدى دول الخليج إنه بعد أن شاهد الإعلان إياه للمرة الثالثة على التوالي بدأت مرحلة جديدة من الصفاء الإيماني والالتزام الديني في حياته، وهو تطور أثار اهتمام من حوله واستحسان المقربين منه. بيد أنّ هذه التجربة التي تستلهم مدرسة "إعلانات الصدمات" تواجه مصاعب فعلية في الوقت الراهن. إذ أكدت مصادر حسنة الاطلاع أنّ "شخصيات عربية بارزة" بدأت تمارس ضغوطاً على القنوات الفضائية العربية التي تعرض الإعلان كي تكف عن بثه للمشاهدين، ورأت هذه "الشخصيات" أنه "ينشر الرعب في نفوس الشباب والناشئة". ولكن هذه الضغوط ما زالت حتى الآن غير كافية لثني المحطات المعنية بالعدول عن البثّ، "فالمبالغ المدفوعة من قبل المعلن سخيّة بالفعل"، كما تقول المصادر. دبي (الإمارات العربية المتحدة) - من حسن حيدر