تتعدد القراءات حول الخلفيات التي حكمت مواقف بعض الهيآت التي رفضت الاستجابة لدعوات اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، فهناك الهيآت التي كانت مرتهنة لموقف مسبق، لكن هناك أطرافا أخرى لا يمكن التشكيك في توجهها الإصلاحي الإيجابي، وكان موقفها تجسيدا لموقف سياسي مستجد يعكس الخوف على تعرض مسار الإصلاح الديمقراطي للإجهاض، وذلك من خلال التلكؤ الملحوظ في القيام بالإصلاحات السياسية وتنزيل إجراءات الثقة، وخاصة ما يهم طي صفحة الاعتقال السياسي وتفكيك بنيات السلطوية. إن هذا الموقف الثاني يقتضي قراءة عميقة لأنه يتجاوز أن يكون خاضعا لحسابات جذرية، بل على العكس من ذلك يكشف أن مشروع الإصلاح الديمقراطي المطروح على بلادنا ما يزال لم يرس على بر الأمان، وأنه ما يزال مستهدفا، خاصة وأن التجربة التاريخية للمغرب تبرز أن سلسلة المبادرات الإصلاحية التي شهدتها العقود الماضية تعرضت للإجهاض وللإفراغ من محتواها بفعل تمكن البنيات السلطوية وجزء من مجموعات المصالح ذات الخلفيات الأمنية والاقتصادية والإيديولوجية من الالتفاف على إرادة الإصلاح، والقضاء على إمكانات والتعاون بين المؤسسة الملكية والقوى الحزبية الوطنية المعتبرة، ولعل العودة إلى تجربة الجينرال أوفقير في أواسط الستينيات خير دليل على ذلك، ولا سيما عندما تمكن من تصفية كل فرص التقارب بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والمؤسسة الملكية مما أفضى إلى تضييع سبع سنوات على المغرب، خمس منها، قضاها في حالة الاستثناء، كما تكرر الأمر نفسه في بداية التسعينيات مع وزير الداخلية السابق إدريس البصري، ثم شهدنا استمرارا جزئيا لبعض تجلياته بعد تفجيرات السادس عشر من ماي .2003 إن استحضار هذه التجارب التاريخية لقراءة الوضع الراهن شرط ضروري من أجل تحصين وحماية مسار التحول الديمقراطي المنشود ببلادنا، خاصة وأن اللحظة التاريخية هي لحظة مفصلية، والمقامرة بها عبر اختزال التحول الديمقراطي في مجرد مراجعات دستورية وقانونية، أو في تسوية ملفات اجتماعية سيكون ضربة موجعة لفرصة تاريخية أتيحت للمغرب، والمؤشرات على ذلك متعددة، أولاها: أننا لم نر بعد إجراءات سياسية واقتصادية شجاعة تقوم على تفكيك بنيات السلطوية والتحكم والإقصاء. وثانيها الترويج لمقولات تعتبر أن ما يجري حاليا مجرد موجة ستمر . وثالثها عدم الانفتاح على مختلف الحساسيات الفكرية والسياسية الموجودة في المجتمع والتي لم يتم الاعتراف بوضعيتها القانونية في السابق ومن ذلك جماعة العدل والإحسان. إن مثل هذا التفكير هو مقامرة بمستقبل المغرب تضعه على المجهول الذي يهدد مكتسبات الوحدة والاستقرار والهوية. وينبغي أخذ العبرة مما يقع حاليا في اليمن وليبيا وسوريا، خاصة وأن تجارب هذه الدول كشفت عن ممانعة سلطوية شرسة ضد حركة التاريخ، انهزمت في الأخير شر هزيمة أمام إرادة الشعوب. ومن الأفضل لكل من يريد استنساخ تجربتها في المغرب أن يتعظ من مآل تلك المقاومات، وأن يمتنع عن كل ما يمكن أن يقطع الطريق على انبعاث تعاون جديد بين المؤسسة الملكية والقوى الوطنية، وفي المقابل فإن على النخب السياسية والاجتماعية أن ترفع من قوة نقدها ومناهضتها لهذا الخطر الكامن وأن تقوي من اليقظة الشعبية والمدنية من أجل صيانة مسار بناء مغرب ديمقراطي جديد.