تكشف المرحلة السياسية الحرجة التي تمر بها البلاد عن وجود مسارين متوازيين، الأول يتمثل في الدينامية المتولدة عن الخطاب الملكي ل9 مارس والآمال المتجددة في مراجعة دستورية عميقة، والثاني يجسدها الحراك الديموقراطي القائم والداعي لاعتماد برنامج مواز للاشتغال على مراجعة الوثيقة الدستورية، وذلك حتى يتم بناء الثقة في المسار الديموقراطي المرجو من جهة، وتوفير الشروط السياسية والاجتماعية لجعل التغيير الدستوري ذا أثر على الواقع السياسي من جهة أخرى. من الواضح أن نصا دستوريا جيدا يصبح عديم الفائدة إذا ما تم تطبيقه في ظل نظام انتخابي فاسد، أو تم اعتماده في ظل مناخ سياسي وحقوقي غير متحرر من إرث المسلكيات السلطوية السياسية أو الاقتصادية. في المستوى الأول، فإن المطلوب هو مراجعة جذرية للنظام الانتخابي ككل وإنجاز ذلك بموازاة العمل القائم لمراجعة الدستور، وذلك باعتبار الضغط القائم من الناحية الزمنية، حيث سيؤدي انتظار اعتماد الدستور المعدل في الخريف القادم في أحسن الأحوال إلى هدر وقت ثمين، خاصة وأن احترام إجراء الانتخابات في موعدها في السنة القادمة سيؤدي إلى الاكتفاء بمراجعة جزئية ومحدودة ستفقد معها المراجعة الدستورية قيمتها الديموقراطية. إن النظام الانتخابي الحالي نظام فاسد كلية ويهدد بإفراغ أي إصلاح دستوري من محتواه مهما كانت قيمته، ويمنح للإدارة إمكانات واسعة للتحكم القبلي في النتائج الانتخابي، والمطلوب الانطلاق من المرتكزات السبع المعلن عنها في الخطاب لتحديد عناصر النظام الانتخابي الجديد، حتى يكون جاهزا بشكل أولي للاعتماد بعد المراجعة الدستورية، على أن يتم دمج مقتضيات المراجعة ذات العلاقة بانتخاب البرلمان في هذا النظام. تقوم المراجعة الجذرية على دفع الحقل الحزبي نحو التقاطب الواضح على أساس البرامج، وتيسير تكوين حكومات منسجمة وفعالة يمكن محاسبتها على برامج مكوناتها في مقابل معارضة قوية قادرة على استثمار إمكانات الإطار الدستوري الجديد لتأسيس رقابة حقيقية على تدبير الشأن العام، وهو ما يتطلب اعتماد خمسة عناصر: - إلغاء العمل بنظام بطاقة الناخب وتعويضها بالبطاقة الوطنية وإلغاء العمل باللوائح الانتخابية الحالية والتي هي نتاج مراجعات استثنائية طيلة حوالي عشرين سنة. - مراجعة نظام الاقتراع في تجاه تعميم نظام اللائحة وفق دورتين، على أساس اعتماد أحد خيارين، إما الاستمرار في الفرز على قاعدة التمثيل النسبي وهنا ينبغي رفع العتبة إلى 10 في المائة، أو اعتماد نظام اللائحة بالأغلبية المطلقة التي تجعل الفائز يكسب كافة مقاعد الدائرة. - اعتماد تقطيع انتخابي جديد بقانون يضمن حياد الإدارة عن التحكم القبلي في النتائج الانتخابية ويحقق التوازن بين المعطيات الجغرافية والديموغرافية ويحد من التفاوتات اللاديموقراطية والكبيرة بين الدوائر. - اعتماد الإشراف القضائي على الانتخابات. - وضع الإجراءات الكفيلة بمنع استعمال المال أو النفوذ للتأثير على الناخبين عبر مضاعفة الإجراءات العقابية الزجرية وإقرار آلية للتدخل الفوري للسلطة تحت طائلة المسائلة القانونية الصارمة لمنع شراء الأصوات والإرشاء السياسي. ويتم تنزيل ذلك بمبادرة حكومية لحوار وطني في الموضوع. أما في المستوى الثاني، فإن الاكتفاء بورش الإصلاح الدستوري دون تصفية للمناخ السياسي والاقتصادي والقطع مع مسلكيات الإقصاء والتحكم يؤدي للدوران في حلقة مفرغة يفقد معها ورش الإصلاح المصداقية اللازمة لنجاحه، وتتمثل أهم هذه الإجراءات في الإفراج على كافة المعتقلين السياسيين أو المعتقلين ضحايا المحاكمات غير العادلة في قضايا الإرهاب والامتناع عن استعمال العنف في مواجهة الاحتجاج السلمي وتسوية الوضعية القانونية للهيئات الجمعوية والسياسية والتراجع عن إخضاعها لنظام استثنائي عرفي لا ديموقراطي مضاد لقواعد الحق في التجمع والتنظيم والتعبير في إطار القانون ثم المراجعة الشاملة لسياسة مكافحة الإرهاب، وبموازاة ذلك اتخاذ القرار بجعل اختصاصات مجلس المنافسة والهيأة المركزية للوقاية من الرشوة اختصاصات تقريرية ذات طابع تدخلي لإقرار قواعد المنافسة النزيهة في الحياة الاقتصادية، واعتماد سياسة إرادية لتحرير الاقتصاد المغربي من الاحتكار أو التدخل بين السلطة والمال. إن تصفية إرث السلطوية في السياسة والاقتصاد هو الكفيل بتأسيس مناخ الثقة العميقة في ورش الإصلاح الدستوري الحالي، وهي الثقة التي تستند لغاية اليوم على الإرادة الملكية الإصلاحية المعلن عليها في الخطاب وينبغي تعزيزها وتقويتها بإجراءات عملية موازية وفعالة.