إذا كان هناك من درس مصري أو تونسي، تحتاج النخبة المغربية الوقوف عنده، فهو درس العجز الملحوظ عند قطاع وازن من النخب المصرية والتونسية إزاء استباق ومواكبة حركة المجتمع وتوجيه مساراتها المستقبلية مما أدى إلى تجاوزها، أو هو الأمر الذي نعيش جزءا من مخاطره هنا في المغرب بسبب القصور في فهم المخاض المحتدم عند الشعوب واستيعاب دوافعه والاستنكاف عن السقوط في أسر التفسيرات التآمرية والاختزالية والأحادية. نعم ثمة وعي متنام بأن المد الديموقراطي الحاصل ستكون له آثاره في المغرب، كما أن هذا الوعي أعطى زخما جديدا لخطاب الإصلاحات السياسية والدستورية، كما أن سعي الدولة للتهدئة السياسية والحزبية وإلى التفاعل الإيجابي مع ملفات الاحتجاج الاجتماعي سواء الوطنية أو المحلية، تعبير عن رفض مقولة الحصانة المطلقة للمغرب، وأن المغرب مطالب بالتكيف مع حركة المد الديموقراطي قبل أن يجد نفسه معزولا. لكن خارج هذا الوعي الإيجابي فإن سؤال ''الكيف'' يبقى بدون جواب، ولاسيما في ظل حالة الانتظارية القاتلة التي تكتفي بإصدار المواقف، والتلويح بالاستعداد للمساهمة، وانتظار انطلاق مسيرة الانتقال الديموقراطي دون قدرة على تحمل المبادرة؟ قبل حوالي عشرين سنة ، وبالضبط في 17 ماي ,1992 كان للنخبة الحزبية القدرة على إطلاق مبادرة الكتلة الديموقراطية بمشاركة خمس أحزاب وطنية تمكنت من تجاوز الحسابات الضيقة، وقامت بالإعلان عن بيانها التاريخي والذي شكل تفاعلا متقدما مع حركة المد الديموقرطي في أوروبا الشرقية، وقدم ما يمكن اعتباره الجواب المغربي على تطلع الشعوب نحو الديموقراطية، وبالرغم من مخلفات التوترات السياسية مع الحكم فإن المؤسسة الملكية تفاعلت من الناحية الاستراتيجية بشكل إيجابي مع هذا التطور. ثمة حاجة اليوم لمبادرة جديدة ليس خوفا من ظهور حركة شبابية احتجاجية يوفر لها الإنترنت فضاء التشكل وتتيح لها الفضائيات العربية القدرة على الامتداد ويتيح لها التناقض بين مواقف وسياسات القوى الدولية الكبرى الفرصة للتطور والتأثير، كما أن هذه المبادرة ليست من أجل المزايدة على هذا الطرف أو ذاك أو السعي لسحب البساط من هذه الجهة أو تلك، بل قبل ذلك وبعده، لأن مستقبل المغرب أصبح رهين مرحلة جديدة من الإصلاحات السياسية والدستورية والديموقراطية، والتي بدونها سنكون مهددين كبلد بالتهميش والتفكك. قد تكون الظروف مختلفة مقارنة مع بداية التسعينيات، وخاصة من حيث وجود عدد من الأحزاب الوطنية في البنية الحكومية الراهنة، لكن ثمة مشترك وهو الاستهداف المتنامي للتعددية الحزبية، والإفراغ المستمر للمؤسستين الحكومية والبرلمانية من شروط الاشتغال المتاحة دستوريا، وقبل ذلك استمرار مأزق العزوف السياسي والانتخابي الذي ظهر بشكل فج في انتخابات 2007 ولم تقدم انتخابات 2009 ما يكشف عن تجاوزه بل إن التطورات السياسية التي تلت التعامل مع المجالس المنتخبة في السنة الماضية مخاطر الشلل الديموقراطي التي تهدد المؤسسات المنتخبة، وهي حالة أخطر من الحالة التي أفرزت نشوء الكتلة الديموقراطية الأولى. إن المغرب كغيره من الدول العربية مدعو للحسم في مساره المستقبلي بشكل إرادي واستباقي، والقطع مع مرحلة التردد وتجريب السياسات السلطوية التدخلية، وطي صفحة المغامرات الحزبية الفوقية، وخاصة بعد أن تحولت إلى عائق أمام قدرة المغرب على مواصلة خيار الانتقال الديموقراطي والإعداد لانتخابات نزيهة وشفافة في 2012 بدستور جديد، وميزة المغرب أنه مؤهل للقيام بذلك دون ضغط الشارع أو ابتزاز الخارج، والمدخل هو تحويل التهدئة التي ظهرت في سلوك الدولة تجاه الفاعلين من تهدئة مؤقتة إلى دائمة ومن تهدئة محكومة بخلفيات أمنية إلى تهدئة توفر الفرصة لحوار جدي ومسؤول حول مستقبل الإصلاحات السياسية والديموقراطية.