وأخيرا حدث ما كان متوقعا؛ صوتت الأغلبية الجنوبية في السودان لصالح الانفصال، بعد عقود من الضغط الخارجي والدفع الاستعماري في اتجاه تفتيت ما أمكن تفتيته من بلاد العرب والمسلمين. ولكن، ما الذي أوصل السودان إلى هذا المآل؟ هل كان في إمكان العامل الخارجي أن ينجح في مسعاه لولا أخطاء التدبير الداخلي للملف؟ جاء في افتتاحية التجديد ليوم العشرين من أكتوبر 2010، والتي حملت عنوان «المغرب ومناورات ‘'روس'' في قضية الصحراء» مايلي: «في المقابل فإن تطورات الوضع السوداني حركت حماس البعض لاستغلال اللوبيات التي نشطت لمصلحة التقسيم والانفصال في السودان من أجل إعادة توظيفها في نزاع الصحراء المغربية، رغم أنه لا وجه للمقارنة بين النزاعين، ذلك أن الحالة السودانية ناجمة عن توترات دينية لعب فيها مجلس الكنائس العالمي العامل الحاسم في تغذية الانفصال ماديا وعسكريا وتوفير الإسناد الدولي له، إلا أن العامل الخارجي لم يكن لينجح بدون الأخطاء التي ارتكبت في التدبير السوداني الداخلي وقصور قدرته على توقع مآلات وسيناريوهات المشاريع الدولية للتسوية، ومبالغته الكبيرة في تقدير القدرات الذاتية، ولهذا نعتبر أن المغرب مطالب بمواجهة كل مناورة لإسقاط الوضع السوداني على الحالة المغربية.» فأي أخطاء ارتكبت في التدبير السوداني الداخلي للملف؟ وأي أخطاء على المغرب تفاديها لإفشال مخططات الاستعمار الجديد؟ بالنسبة للسودان الذي تختلف قضيته كليا عن قضية المغرب وإن اتفقا في الاستهداف الخارجي؛ فإن السبب الذي كان وراء الاختلاف وانفراط كل العرى بين الترابي والبشير، هو من أهم الأسباب التي أدت إلى أكبر خطأ قاد إلى المسار الذي انتهى بالانفصال؛ ذلك أنه عندما اقترح الترابي تطبيق الجهوية الموسعة في كل أقاليم السودان، ومنح سكان كل جهة حق انتخاب ولاتها، وتمكين هذه الجهات من صلاحيات كبرى في تدبير شئونهم المحلية في استقلال نسبي عن السلطة المركزية في الخرطوم، ولكن تحت سيادة السودان الموحد؛ أحس البشير أن في ذلك تقليصا من صلاحياته ولمركزة مطلق السلطات في يده. فدخل في مسلسل من الاعتقالات التي مست العديد من قيادات حزب المؤتمر الشعبي بمن فيه أمينه العام الدكتور حسن الترابي، وأحكم قبضته على السلطات كلها. والحقيقة أن رؤية الترابي كانت بعيدة النظر، فربما لو سار السودان في المسار الذي خططته له حركة 1989 التي سميت ب «ثورة الانقاذ»، وتم المضي قدما في مسلسل دمقرطة البلاد، ولو أحس سكان الجنوب وغيرهم من سكان الجهات الأخرى بجو من الحرية والديمقراطية بعيدا عن القبضة الحديدية للسلطة المركزية في العاصمة لما صوتوا للانفصال، ولفضلوا البقاء في إطار وحدة تمكنهم من ممارسة خصوصياتهم الثقافية والعرقية والدينية تحت سيادة دولة موحدة، لأن الشعوب عادة ما تميل إلى الاستقرار والأمن وتستبعد المغامرات غير المحسوبة. اشتراك المغرب والسودان في الاستهداف الخارجي رغم اختلاف بنية المشكل ذي الطبيعة الدينية في السودان، كان قد نبه إليه الملك الحسن الثاني رحمه الله عندما وصف تزامن الإرهاصات الأولى لاختلاق مشكل الجنوب مع مشكل الصحراء المفتعل، بمحاولة فرض لفصل إفريقيا شمال الصحراء الكبرى عن إفريقيا جنوبها بخط وهمي على شكل «مستطيل شبه منحرف» . الجهوية في المغرب ليست طارئة، إنها أصيلة فيه، فقد كان سكان قبائل المغرب ينتخبون حكامهم الجهويين الذين يسمونهم «القايد»، الذي لا تتم له الشرعية بعد ذلك إلا عندما يتوصل بظهير تعيينه من سلطان البلاد، الذي يبقى له الحق في عزله عند الضرورة. وهذا النظام الجهوي تحت سيادة الدولة كان من أهم الأسباب التي حافظت للمغرب على وحدته مع تنوعه، واستقلاله رغم المحاولات الخارجية التي استمرت قرونا. وكان آخر بلد إسلامي يسقط في يد الاستعمار ومن أول من استعاد استقلاله، ولم يستمر الاستعمار فيه ما استمر في غيره من الزمن. فلماذا لا يتم استباقا لكل مكر، التفكير في تطبيق الجهوية الموسعة بدأً بالأقاليم الصحراوية أولا، دون انتظار ما قد تسفر عنه أو لا تسفر عنه مفاوضات مع طرف أصم؟