يواجه المثقفون والأدباء العراقيون مشكلة معقدة هذه الأيام، فالنظام الذي بنوا علي معارضته، وإبراز جرائمه وديكتاتوريته طوال الثلاثين عاما الماضية انتهى، ولم يعد موجودا، وبات العراق خاضعا للاحتلال الأمريكي المباشر. وبدل أن يركز هؤلاء المثقفون على الاحتلال، ويعارضوه، مثل كل المثقفين في دول العالم، المتحضر منها أو المتخلف، التي واجهت احتلالا مماثلا، نجدهم، أو بعضهم، على وجه التحديد، يشن حملة شعواء على نظرائهم العرب، ويتهمونهم بمساندة النظام السابق وتبرير جرائمه، لأنهم يعارضون الاحتلال الأمريكي بضراوة، ويرون في مقاومته موقفا وطنيا وأخلاقيا. الاحتلال الأمريكي يعتقل مئات العراقيين يوميا، ويهين المواطنين، ويفتش نساءهم، وينتهك حرمات بيوتهم، وقتل في يوم واحد أكثر من مئة وثلاثين عراقيا، ولم نسمع أو نقرأ من هؤلاء الذين يهاجمون العرب ومثقفيهم، كلمة واحدة ضد هذه الممارسات. كما أننا لم نسمع أو نقرأ إدانة صريحة للاحتلال والمطالبة بمقاومته. واللافت أن معظم الصامتين على هذا الاحتلال، والشاتمين للعرب ومثقفيهم كانوا، وربما ما زالوا، من الماركسيين، أو القوميين، وبعض هؤلاء انخرطوا، بإخلاص وقناعة في صفوف المقاومة الفلسطينية، وحاربوا الاحتلال الإسرائيلي بالرصاصة والكلمة، وفقدوا رفاقا سقطوا شهداء دفاعا عن أمة، والتزاما بمبدإ مكافحة الإمبريالية الأم. المثقفون العرب، أو معظمهم، لم يتغيروا، وما زالوا يعيشون ويؤمنون بأدبيات الزملاء العراقيين أنفسهم، ويعتبرون أمريكا الإمبريالية الأم، ويتطلعون إلى وحدة الدم والعقيدة، ويحلمون بنموذج عربي أسوة بالوحدة الأوروبية أو الإفريقية، ويقاومون الاحتلال الإسرائيلي وكل أشكال التطبيع معه، طالما استمرت الطبيعة العدوانية العنصرية التوسعية الإسرائيلية، ومن الطبيعي أن يرفض هؤلاء، ونحن منهم، الاحتلال الأمريكي للعراق، ويتطلعون إلى مقاومته، فالاحتلال هو احتلال، سواء كان في فلسطين أو العراق، سواء كان أمريكيا آو إسبانيا، بريطانيا أو فرنسيا. فلماذا هذا الهجوم الشرس من قبل مثقفين عراقيين، ولماذا يساء تفسير هذا الموقف الأخلاقي البديهي، ويوصف بأنه مساندة لنظام سابق وممارساته القمعية والديكتاتورية؟ فهل كانت ثورة العراقيين عام 0291 ضد الإنكليز هي تأييد وحنين للاستعمار التركي؟ والأخطر من هذا تلك النغمة السائدة التي يرددها بعض المثقفين والكتاب العراقيين وتطالبنا، نحن العرب، بعدم التدخل في الشأن الداخلي العراقي، لأنه شأن لا يخصنا، ويخص العراقيين وحدهم. وهي نغمة غريبة، فوفق هذا المفهوم بات علينا أن نتعامل مع العراق، وكأنه دولة غير عربية وغير إسلامية، ويقع في مجرة كونية أخرى تبعد عنا آلاف السنوات الضوئية! كيف يسمح ويغفر هؤلاء لمئات الآلاف من الجنود الأمريكيين والبريطانيين القادمين من على بعد عشرة آلاف كيلومتر للتدخل في شؤون العراق واحتلاله، وتمثيله في مؤتمرات عالمية (المنتدى الاقتصادي الأخير في الأردن) ووضع دستور دائم له، واستغلال ثرواته النفطية، ويمنعوننا نحن العرب المسلمين جيران العراق وأهله من أن نقول رأينا، ومن على بعد، بما يجري على أرضه من وقائع؟ المثقفون العرب ظلوا دائما يؤمنون بقومية المعركة، ونحن في فلسطين رحبنا ونرحب دائما بالتدخل العربي، وذهبنا إلى ما هو أبعد من ذلك عندما أيدنا كل الطروحات التي تقول بأن فلسطين وقف إسلامي لا يجوز لأهلها التصرف به والتنازل عن مقدساته، وكانت وما زالت سعادتنا غامرة ونحن نرى الأشقاء العرب، ومن بينهم خيرة أبناء العراق، يتدفقون للتطوع والانخراط في صفوف فصائل المقاومة الماركسية منها أو القومية، أو الإسلامية، كل حسب عقيدته وانتمائه، فلماذا هذا العداء من قبل بعض المثقفين العراقيين لنا كعرب، ولماذا يشتاطون غضبا، وهم الذين طالبوا ويطالبون بالحريات التعبيرية والديمقراطية، واحترام الرأي الآخر، كلما أبدينا رأيا في الشأن العراقي، أو عارضنا الاحتلال؟ لم نقرأ أو نسمع أن أديبا فرنسيا مرموقا وقف إلى جانب الاحتلال النازي لبلاده، وطالب بالتعاون معه أو حتى السكوت عنه. ولم نقرأ أو نسمع أن أديبا أو مفكرا عربيا محترما ساند الاستعمارين الفرنسي أو البريطاني للأراضي العربية أوائل القرن الماضي، بل كانت مقاومة الاحتلال مصدر الهام وإجماع بين الغالبية الساحقة من المثقفين والكتاب والأدباء العرب. فماذا دها هؤلاء الإخوة العراقيين الذين يهاجمون نظراءهم العرب، وينسون الاحتلال الأمريكي لبلادهم؟ ويصل الإحباط ذروته عندما يذهب بعض الأشقاء الأكراد إلى مستويات من الهجوم على العرب لم يسبق لها مثيل، ويطالبونهم بالاعتذار عن جرائم النظام السابق، وكأن هذا النظام ورموزه جاؤوا من مصر أو الشام أو المغرب العربي وليس من العراق نفسه. ثم هل سيعتذر لنا كعرب، بعض الأشقاء الأكراد على أعمال القتل التي ارتكبوها في حقنا، أو بالقبول باستخدامهم كذريعة وغطاء لتسهيل احتلال العراق، أو عن تواطؤ قادة أحزابهم الكبرى مع قوات المحتل الأجنبي؟ وهل سيعتذر هؤلاء الأشقاء لإخوانهم في تركيا من أبناء جلدتهم، عندما تواطأت بعض ميليشياتهم مع عمليات الإبادة التي نفذها الجيش التركي في حق عناصر حزب العمال الكردستاني الذين لجؤوا إلى شمال العراق لمقاومة القمع التركي، والمطالبة بحقوقهم كأقلية، لها مواصفاتها القومية والثقافية المستقلة عن الأغلبية التركية؟ وأخيرا نسأل: أليس من حقنا كعرب أن نستفسر من أشقائنا الأكراد عن أسباب مقاومتهم الشرسة ل الاحتلال العربي ولا نسمع منهم أي كلمة عن مقاومة الاحتلال الأمريكي؟ نعم نعترف ونقر بأن استخدام الأسلحة الكيماوية في حلبجة كان جريمة بشعة مدانة بأقصى كلمات الإدانة، ولكن هل اقتصرت هذه الجرائم على الأكراد وحدهم، ألم تكن هناك مقابر جماعية أيضا للعرب، من سنة وشيعة، وبعضها من صنع أعداء النظام أيضا؟ ندرك جيدا أن عتبنا هذا لن يغير قناعة بعض المثقفين العراقيين، وقد يستفز البعض الآخر، الذي اختار الخندق الآخر وتمترس به، وهذا حقه، ولكننا لن نغير قناعاتنا في مواجهة الاحتلال، أينما كان، ولن نكون لوحدنا، فهناك ملايين العراقيين الذين يشاركوننا هذه القناعة، كما أن هناك عشرات وربما مئات الملايين في العالم بأسره يتخذون الموقف نفسه، وعلى رأس هؤلاء كتاب وفنانون وأدباء غربيون من أوروبا وأمريكا. عبد الباري عطوان رئيس تحرير صحيفة القدس العربي