ما أوسع الفرق بين صلاة المهاجرين المسلمين الأوائل إلى البلدان الغربية مع منتصف القرن الماضي، وصلاتهم وصلاة الذين جاءوا من بعدهم مع مطلع القرن الحالي: نصف قرن تقريبا كانت كافية لتخرج تلك الصلوات من السر إلى العلن، ومن الفوضى إلى النظام، ومن الأقبية إلى المساجد والمنابر. الإقبال المتزايد على التدين، وعودة الروح إلى جسدها، أخرج الأئمة من الظل إلى الضوء، ومن الظلمة إلى النور، ليقيموا الصلاة كل يوم، وكل جمعة، وكل رمضان. وفجأة وجد هؤلاء الأئمة أنفسهم في قلب جدل لا ينتهي، ومعادلة معقدة يتداخل فيها الداخلي مع الخارجي، والسياسي مع الثقافي، والعلماني مع الديني. كل هذا مع صحوة إسلامية شعبية كبرت حتى فاقت النخب، وازداد بها الطلب على الأئمة حتى فاق العرض. أطراف متعددة تدلي بدلوها في سجال الأئمة المسلمين في المساجد الأوروبية، رجال السياسة الحاكمون والمعارضون، ورجال الدين الكاثوليكيون والبروتستانتيون، واللادينيون حراس قلعة العلمانية، ورؤساء المنظمات الإسلامية، والخبراء في الظاهرة الإسلامية، والدول الأصلية التي جاء منها المهاجرون. أقاويل كثيرة تعرض عن استيراد الأئمة من البلدان الإسلامية أو استنباتهم في المعاهد والجامعات الغربية، وعن مضمون التكوين، ومدته، ومن يقوم به، وتمويله، وعن مصير المتخرجين. وتعطى الكلمة للجميع، إلا الأئمة، فلم يلتفت إليهم أحد. الحالة البلجيكية الحالة البلجيكية عبر عنها رجل الدين الكاثوليكي هانس فوكينغ، رئيس اللجنة الكنسية المشتغلة ب''الإسلام في أوروبا'' في ورقة كتبها في يناير .2007 وتقول الورقة إن الأئمة في بلدان الهجرة الأوروبية يطالبون بأداء وظائف متعددة، فالجالية المسلمة تنتظر منهم التدخل في الميادين الدينية والثقافية والتربوية والسياسية والاجتماعية، كما تنتظر منهم دعما في عملية الاندماج، وتقارن بينهم وبين ممثلي الديانات المتجذرة في أوروبا منذ قرون. كما أن هؤلاء الأئمة يصبحون جسورا للتقاليد الإثنية والثقافية، مغربية وكردية وباكستانية وتركية وغيرها. وأخيرا، وعلى الصعيد الاجتماعي، يقومون بوظيفة التوجيه وتقديم النصائح الفردية والجماعية حول طريقة العيش الإسلامية في سياق أوروبي خاضع للعلمانية والتعددية. ويرى هانس فوكينغ أن النقص الكبير في عدد الأئمة المكونين في بلجيكا وأوروبا يطرح عدة مشاكل، فالأئمة المستوردون لهم تعليم تقليدي إذ حفظوا القرآن الكريم والحديث الشريف وبعض متون الفقه، ومعظمهم أتوا من البوادي والقرى، ومستواهم الثقافي والبيداغوجي ضعيف جدا. وبمجرد وصولهم تطرح مشاكل كبيرة بسبب التباين الكبير بين التكوين المتبع والمستوى اللازم ليكون الإمام فعالا ومؤثرا في الجالية المسلمة بأوروبا، فما أوسع الفرق بين البيئة القروية التي جاء منها، وكان جل أهلها أميون وكبارا في السن، وبيئة جديدة تماما أغلب أهلها مثقفون ثقافة حديثة وشبان في مقتبل العمر، وفي قلب التقدم الصناعي والتكنولوجي والإعلامي. ثم إن هؤلاء الأئمة الوافدين لا يعرفون من لغات بلدان المهجر إلا النزر اليسير، أو لا يعرفون منها شيئا على الإطلاق، فضلا عن جهلهم بالثقافة والتاريخ والتحولات الجديدة للمجتمعات الغربية. ويخلص هانس فوكينغ إلى أنه بالنظر إلى حجم المسلمين في بلجيكا وأوروبا، والتعدد المذهبي والثقافي التقليدي للمسلمين أمام تحدي الحداثة والهجرة، وبالنظر إلى النقص الحاد على المستوى التنظيمي والتمثيلي للمسلمين، والاعتراف القانوني بهم، وبذل السلطات الحاكمة جهدها في التعامل معهم على قدم المساواة مع الأديان الأخرى، وبالنظر إلى تدخل الحكومات الأصلية للمهاجرين في الشأن الديني إلى جانب المنظمات الإسلامية العالمية، فلا بد من فتح شعبة للتكوين الديني للأئمة والخطباء والمدرسين والمرشدين في المساجد والمستشفيات والسجون والجيش. الحالة السويسرية أجرت السلطات السويسرية دراسة حول الأئمة فوجئت فيها بحجم الإجماع الحاصل لدى المسلمين وغير المسلمين حول ضرورة تكوين الأئمة في سويسرا، وقال أولريخ رودولف الأستاذ بمعهد الدراسات الشرقية بمدينة زيوريخ ''إن 80 بالمئة من الأشخاص المستجوبين يؤيدون تعليم إسلام أصيل، متوافق مع السياق السويسري، على أيدي أئمة متخرجين هنا وليس بالخارج''. الدراسة المذكورة جاءت بطلب من الحكومة، وتنفيذ من الصندوق الوطني السويسري للبحث العلمي، وشملت المجموعات الدينية والأحزاب السياسية والمدارس العليا والخبراء القانونيين، وأفضت إلى أنه لا يوجد أي عقبة قانونية أمام إدخال التكوين المخصص للائمة، ''فكما هو الحال بالنسبة للواعظ المسيحي، على الإمام أن يكون خطيبا وبيداغوجيا في الوقت نفسه'' حسب توضيحات أولريخ رودولف. ستيفان لاتيون، أبرز الخبراء السويسريين في الظاهرة الإسلامية ببلاده، وعضو مجموعة البحث حول الإسلام بسويسرا، فوجئ هو الآخر بهذه النتائج، ''خاصة إجماع المسلمين السويسريين على الحاجة إلى مسئولين دينيين أكثر تسلحا بالتكوين للإجابة عن القضايا العملية للحياة اليومية بسويسرا''. لكن لاتيون لا يخفي اعتراضه على تدخل الدولة السويسرية في تكوين الأئمة، فهذا أول عامل سيبعد الأئمة عن التكوين، أو سيجعل منه أرقاما جديدا تضاف إلى طابور العاطلين عن العمل. فالأئمة في نظره، تختارهم قواعدهم، ولا يفرض الأئمة على المصلين إلا في الأنظمة المستبدة على حد قوله. وعليه فإن الذي ينبغي أن يكون هو مجرد برنامج تكميلي لتخريج ''أطر اجتماعية''، فكلمة ''إمام'' تشوش على النقاش وتجعله عقيما. ومن أهم القضايا التي يرى لاتيون أن الأئمة بحاجة ماسة إليها، معرفة العلمانية والقوانين العملية لها، ومنتهى أمله أن تصل سويسرا في الاعتراف القانوني والدستوري بالدين الإسلامي كما سبقت إلى ذلك النمسا، حيث يعتبر الإسلام فيها دين الدولة، إلى جانب المسيحية، وحيث يتخرج الأئمة من أكاديمية البيداغوجيا الإسلامية، ويصبحون موظفين. بل إن النمسا دأبت على تنظيم مؤتمرات منتظمة للأئمة والمرشدات بأوروبا، بدءا بمؤتمر ''أئمة أوروبا'' الذي عقد في مدينة غراتس النمساوية الجنوبية عام ,2003 ثم مؤتمر ''الأئمة والمرشدات'' عام 2007 في فيينا، وأخيرا مؤتمر ''الأئمة والمرشدات الدينيات للأقليات الإسلامية في أوروبا'' في 14 مايو .2010 وكان مأمولا أن يبدأ مشروع التكوين في ربيع ,2010 في جامعة فريبورغ، لكن الاستفتاء على منع الصوامع، والجدل الحاد حول منع البرقع، أوقف كل شيء. لكن لاتيون يلقي باللائمة أيضا على المسلمين الذين يحتاجون إلى المبادرة والدخول إلى الساحة بعزم كبير، وذلك ما عبر عنه طارق رمضان عندما قال إن المسلمين بالغرب في حاجة إلى شيء من الشجاعة. الحالة الفرنسية وأما في فرنسا، فالأمر فيها أكثر إثارة من الدول الغربية الأخرى، لتقدم الإسلام في مراتب الأديان كما وكيفا. تكلف فرانك فريغوزي أبرز المختصين في الإسلام الفرنسي، بإنجاز دراسة عن واقع الأئمة وتكوينهم، فأظهرت الدراسة أن معاهد التكوين الحالية بفرنسا ثلاثة ظهرت بين يناير 1992 ويوليوز ,1993 هي المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية في شاطو- شينيون، وله فرع في سانت ديني. والثاني هو معهد العقيدة أو الإلهيات بمسجد باريس. والثالث هو الجامعة الإسلامية بفرنسا في مانت لاجولي، وتحولت إلى معهد للدراسات الإسلامية بباريس. ثم انضاف إلى هذه المعاهد الثلاثة في سنة ,2006 معهد ابن سينا بمدينة ليل، ومركز الشاطبي بمدينة ليون، إلى جانب المعهد العالمي للفكر الإسلامي فرع فرنسا، والمعهد المتوسطي للدراسات الإسلامية بمارسيليا. وتقوم هذه المعاهد بتدريس علوم القرآن الكريم والحديث والفقه الإسلامي. ويرى فريغوزي أن عدة عوامل تؤثر في مسار تكوين الأئمة: أولها الظروف الداخلية المرتبطة بتمثيل الإسلام في أوروبا والتنافس بين عدة تيارات ومذاهب. ثانيا الظروف الخارجية المتمثلة في السياسات الدولية وانعكاساتها على الإسلام (أفغانستان والعراق وفلسطين وإيران والصومال...) ثالثا العلمانية وخيانتها على أرض الواقع، فالدولة وأصحاب القرار السياسي في حيرة من أمرهم، بين مبدأ الحرية الليبرالي وتدخل السلطات العمومية في مجال تنظيم الأديان. قلق السياسيين عبر عنه وزير الداخلية السابق بيير شيفينمان عندما قال ''إسلام فرنسا لا يزال في حاجة إلى البناء، وقضية تكوين الأئمة لا تزال في مهدها ولم تجد لها حلا جذريا. مع مرور الوقت وصلت إلى خلاصة مفادها أن إنشاء معهد للتكوين في ستراسبورغ كان هو الحل الأمثل للحصول على تكوين عال يستجيب للمعايير الجمهورية، وتبعا لذلك تكون الدولة هي صاحبة التمويل''. وكشفت دراسة قام بها معهد الدراسات العليا والأمن الداخلي لفائدة وزارة الداخلية في شهر ماي ,2002 شارك فيها معربون ومختصون في الإسلامية، أن الغالب على خطب الجمعة بمساجد فرنسا، فضلا عن عدم توحدها، رفض القضايا المتطرفة المتزمتة، والتركيز على القضايا الأخلاقية والروحية والفقهية. ويظل النقاش العام حول تكوين الأئمة منشغلا إلى درجة القلق بإبعاد هؤلاء الأطر عن أي توظيف سياسي متشدد للإسلام، يدل على هذا حالات الطرد في حق بعض الأئمة المتشددين مثل عبد القادر بوزيان إمام فينيسيو، والتركي مدحت غولر من الدائرة 11 بباريس، والإقامة الجبرية في حق العراقي ياشار علي في ميند، وإغلاق قاعات الصلاة بمدن كلامار، وشاطني مالابري في أبريل .2004 وهذه الحالات كان لها ضغط قوي على سعي الوزير دومينيك دوفيليبان لإعادة فتح النقاش حول تكوين الأئمة بموافقة من المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية أو عدم موافقته.